د. داليا عبدالله العمر
في عصر تتلاحق فيه المعارف وتتعقد فيه الأفكار، يطفو على السطح تساؤل جوهري: هل يمتلك العقل البشري القدرة على استيعاب كل ما في الوجود؟ وهل المنطق، كأداة للمعرفة، يصلح مقياسًا لكل ظواهر الكون؟ وأين يقف الدين، بما يحمله من وحي وغيب، أمام أدوات العقل ومباحث المنطق؟
المنطق: آلة التفكير ومنظم البصيرة
يُعنى علم المنطق بضبط مسار الفكر عبر منظومة من القواعد الصارمة التي تُسهم في تمييز الاستدلالات السليمة من المغلوطة. إنه بمثابة محرك تحليلي للأفكار، يُنظم عملية الانتقال من المقدمات إلى النتائج، ويحصن العقل من الوقوع في التناقضات والزيف.
يُعد «أرسطو» الأب الروحي للمنطق الصوري في القرن الرابع قبل الميلاد، ولقّبه المسلمون بـ»المعلّم الأول». ومع تقدم العلوم، تطورت أنواع المنطق وتوسعت مجالات استخدامه، لتشمل الفلسفة وصولًا إلى الذكاء الاصطناعي.
تصنيفات المنطق:
المنطق الصوري (التقليدي): يركز على بنية الحجة بغض النظر عن محتواها، ويهتم بالتركيب العقلي للاستدلالات. مثال ذلك:
كل إنسان فانٍ.
علي إنسان.
إذًا علي فانٍ.
المنطق الرمزي (الرياضي): يستخدم الرموز والتعابير الرياضية لتمثيل المفاهيم بدقة متناهية، ويُستخدم بشكل واسع في علوم الحاسوب والبرمجة. المنطق غير الصوري (التطبيقي): يُعنى بتحليل النقاشات اليومية والخطابات، ويكشف الأخطاء المنطقية التي قد تبدو مقبولة ظاهريًا لكنها جوهريًا غير صحيحة.
المنطق التجريبي (العلمي): يعتمد على الملاحظة، الاستقراء، والتجريب، ويُطبق في ميادين العلوم الطبيعية والطبية.
الدين والمنطق: حدود لا تُتجاوز
من الضروري التمييز بين المنطق كأداة عقلية قيمة، وبين محاولات إقحامه في مسائل تتجاوز نطاق قدراته، مثل الغيب والوحي والإيمان.
يعتمد «المنطق» على التجربة الحسية، المقارنة، الاستقراء، وقياس الغائب على الشاهد. في المقابل، يستند الدين إلى الوحي الإلهي، ويقوم على الغيبيات، والإيمان بمسلمات أخبرنا بها الله عز وجل، والتي لا يمكن للعقل البشري إدراكها بالحواس أو التجربة، كالملائكة، الجنة، القدر، أو تفاصيل الحياة بعد الممات.
هنا، يتجلى لنا أن «محاولة إخضاع الدين للمنطق» تنطوي على خلل منهجي فادح، إذ إنها أشبه بمحاكمة ما يفوق العقل بما هو أدنى منه. الأمر كمن يحاول قياس المحيط بمسطرة صغيرة، أو تفصيل الغيب بمقص المنطق المحدود.
هل يتعارض الإيمان مع العقل؟
بالتأكيد لا. الإسلام دين يعظم العقل، ويحث على التفكر والتدبر، ويزخر القرآن الكريم بالعديد من الآيات التي تدعو إلى ذلك، مثل:
{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}؟
لكن الإسلام يوضح لنا أيضًا أن العقل ليس المصدر الوحيد للمعرفة. بل هناك وحيٌ منزه عن الخطأ، يُنير لنا دروب ما لا تدركه عقولنا، ويرشدها حين تعجز. فلا يوجد تناقض بين العقل والنقل، إنما يظهر التناقض حين نقدم أداة قاصرة (المنطق) على مصدر كامل لا يعتريه النقص (الوحي).
المنطق.. سيف ذو حدين
قد يكون المنطق سبيلًا إلى الحق، لكنه قد يُستخدم أيضًا في التضليل. فكم من نقاش بدا منطقيًا في ظاهره، بينما كان يبرر باطلًا! وكم من مغالطات ارتقت بزي العقل والمنطق، وهي في حقيقتها أضعف من بيت العنكبوت!
قال بعض العلماء القدماء: «من تمنطق تزندق»، ولم يكونوا يقصدون ذم المنطق بحد ذاته، بل كانوا يذمون من استخدمه لتبرير أهوائه، أو لرفض نصوص الشرع بعقله المحدود.
خلاصة القول:
المنطق أداة فكرية رفيعة المستوى تُمكننا من التماسك الذهني والتمييز بين الحجة والعاطفة. لكن لهذه الأداة حدودها. أما الدين، فمصدره وحي إلهي من السماء، لا يُقاس بمدارك عقولنا، بل نذعن له بتسليم نابع من البصيرة والإيمان.
وعندما يتناغم «المنطق المستقيم» مع «الوحي المعصوم»، يسكن العقل، ويطمئن القلب، وتسمو الروح.