منال الحصيني
في زمن تتسارع فيه الأحداث وتسبق فيه المعلومة حتى الصوت، تغيَّر شكل الصراعات وتحوَّلت من ميادين مكشوفة إلى مساحات صامتة لا تُرى، لكنها تصنع الفارق الحقيقي. لم تعد المعارك تُخاض بالصخب والأسلحة، بل صارت تُدار في الخفاء، بصمتٍ بالغ، وبدقة لا يعرفها إلا من تعوَّد أن يراقب التفاصيل الصغيرة.
هناك عالم موازٍ لا تراه العين، تتحرك فيه القوى بهدوء شديد، لا عبر بيانات رسمية، بل من خلال أنماط الشراء، وتغيّرات السوق، وتسريبات غير ملحوظة. كل جزء من هذه الصورة يوصل إلى فهم أعمق، ويُظهر كيف أن المعلومة «ولو كانت بسيطة» قد تُغيّر موازين لعبة كاملة.
من يتقن فن الإصغاء لهذا العالم، لا يحتاج إلى مطاردة الأسرار. هو فقط يراقب، يفهم السياق، ويحلِّل ما بين السطور. خبير المخابرات الاقتصادية لا يبالغ في ردود فعله، بل يتفاعل بذكاء مع ما يمر أمامه: خبر صغير، تحديث في تطبيق، أو حتى تصريح في مؤتمر بعيد. بالنسبة له، كل شيء له معنى.
وفي قلب هذه المنظومة الدقيقة، يظهر الأمن السيبراني كأداة إستراتيجية، لا لحماية البيانات فقط، بل لفهم أعمق للواقع الرقمي الذي نعيشه. هو ليس مجرد جدار صد، بل دليل يرافقك داخل شبكة معقدة من التحركات الرقمية. يحذِّرك بلطف من أثر ما تتركه خلفك، ويذكِّرك أن كل تفاعل إلكتروني هو بصمة.
هذه ليست مبالغة في وصف الخطر، بل دعوة للوعي. فالمخابرات الاقتصادية لا تسرق المعلومات، بل تقرأ العالم كما هو، بصبر وتركيز، وتربط بين أحداث تبدو عشوائية لكنها تخبر الكثير.
ولمن لا يزال يظن أن الحروب تحتاج إلى أصوات انفجارات كي تبدأ، ما عليه إلا أن ينظر للعالم من حوله. اليوم، قد تبدأ معركة كاملة بشيفرة مسرَّبة، أو انقطاع مفاجئ في شبكة، أو خلل في أنظمة مطار، بدون إعلان رسمي، وبدون طلقة واحدة.
هذه هي الحرب الجديدة... حيث لا ينتصر من يطلق النار أولاً، بل من يفهم أولاً... ويبادر بصمت.