عبدالرؤوف توتي بن حمزة
منذ فجر الفكر الإنساني، ظلّت الشخصية لغزًا عصيًّا على الانكشاف، وسؤالًا مفتوحًا تتعدد إجاباته وتتشابك مع التجربة والحياة. فما الذي يجعل الإنسان كائنًا فريدًا في ذاته، متميزا عن غيره في نظرته وسلوكه وتفاعله مع العالم؟ وهل الشخصية قدرٌ يولد معنا، أم بناءٌ نكتسبه ونصوغه على امتداد محطات العمر؟ أسئلة كهذه لم تغب عن تأملات الفلاسفة، ولا عن أدوات علماء النفس، بل ما زالت تتجدد في تفاصيل الحياة اليومية، حيث تومض ملامح جديدة من النفس البشرية في كل لحظة.
وحين نتأمل الإنسان، لا يسعنا فصله عن شخصيته؛ تلك البنية المركّبة التي لا تُرى بالعين، لكنها تُلمس في السلوك، وتُستشعر في التفاعل، وتُترك أثرها العميق في كل علاقة.
فالشخصية ليست قناعًا نرتديه، ولا قالبًا نصاغ فيه منذ الولادة، بل هي سيرورة تكوُّن دائمة، تبدأ من اللحظة الأولى للحياة، وتمتد حتى آخر الأنفاس. إنها انعكاس للداخل بقدر ما هي تعبير عن الخارج. وقد لا تكون كل شخصية مرآة صافية لما تحمله داخلها؛ فكثيرًا ما يخدعنا المظهر، وتخوننا الانطباعات الأولى.
كم من شخص ظنناه قويًّا فكان هشًّا، وكم من هادئ تبين أنه عميق الحضور!
فالشخصية أبعد بكثير من مجرد انطباع عابر، إنها مزيج من السمات النفسية والجسدية، من المزاج والعقل، ومن العادات والتجارب، وكل تفصيلة صغيرة تسهم في بناء هذا الكيان المعقد الذي يُدعى «أنا».
والمفارقة أن الناس لا يتشابهون في شخصياتهم كما لا يتشابهون في ملامحهم. فبعضهم يميل إلى الانطواء، يرى في العزلة طمأنينة وفي الصمت حضورًا، وبعضهم ينفتح على العالم بكل حواسه، يتغذّى من ضجيجه ويتنفس تفاعله، فيما يتوازن آخرون بين الطرفين، يتنقلون بين الانغلاق والانفتاح بحسب الحاجة والموقف.
كل نمط من هذه الأنماط له وجاهته، ولا يتكوَّن تلقائيًا، بل هو نتاج تفاعل معقّد لعوامل متعددة تعمل في صمت داخل النفس.
تلعب البيولوجيا دورًا تأسيسيًا في بناء الشخصية. فالمظهر الخارجي، والحالة الصحية، والبنية الجسدية، جميعها تترك أثرًا لا يُستهان به على شعور الإنسان بذاته، وعلى طريقة تفاعل الآخرين معه.
أما التوازن الكيميائي داخل الجسد، من خلال الغدد والهرمونات، فيسهم في تشكيل المزاج العام، والحدة أو الهدوء في الطبع. والجهاز العصبي أيضًا عنصر فاعل، إذ تؤثر كفاءته على سرعة التفاعل، وعلى القدرة على التحمّل، والتفكير، والانضباط.
غير أن الجينات وحدها لا تصنع الشخصية. فالبيئة المحيطة تتسلل إلى أعماق الفرد بهدوء، وتؤثر في ما نعتقد أنه «طبيعتنا».
فالأسرة، مثلًا، هي المسرح الأول الذي تُعرض عليه ملامح الشخصية، ويتجلّى فيه أثر العاطفة أو القسوة، الحوار أو الصمت، التشجيع أو الإهمال. ثم تأتي المدرسة، لا بصفتها مكانًا للتعليم فقط، بل فضاءً لغرس القيم، واكتشاف القدرات، وتشكيل الاتجاهات. وبين البيت والمدرسة، تنشأ اللغة، لا بوصفها أداة تواصل فحسب، بل كوعاء للهوية، ومسار للتفكير، وجسر للتفاعل.
ولا يقلّ أهمية دور الثقافة في تشكيل الشخصية؛ فهي التي ترسم حدود المقبول والمرفوض، وتُعرّف البطولة والتهور، والجرأة والوقاحة.
إنها الإطار اللا مرئي الذي نُعيد من خلاله تفسير العالم والناس. ومن دونها، يصبح الفرد كائنًا معلقًا في فراغ، بلا مرجعية، ولا وجهة، ولا تعريف لذاته.
ثم تأتي العوامل النفسية، وهي الأعمق أثرًا، والأشد خفاءً. فالفارق بين شخصية ناضجة وأخرى هشّة قد لا يتجلى في مستوى التعليم، بل في عمق الإحساس، ومدى وعي الفرد بذاته، وقدرته على التحكم بانفعالاته، وتعامله مع الفشل والنجاح.
الذكاء، هنا، ليس مجرد قدرة على الحساب، بل يشمل المرونة، والتأمل، وفهم الذات والآخر. والدوافع هي الطاقة المحرّكة لكل فعل، تتفاوت بين من يسعى للأفضل، ومن يرضى بالمألوف.
أما العواطف، فهي التي تصبغ الشخصية بألوانها الخاصة، وتحدد عمق العلاقات الإنسانية ودفئها.
كل هذه العناصر، بتشابكها الدقيق، تجعل من الشخصية كيانًا متجددًا، لا يتصلب إلا حين يفقد القدرة على التساؤل، ولا ينضج إلا حين يواجه ذاته بصدق. فالشخصية ليست حتمية، بل احتمال دائم التشكّل، مشروع مفتوح للنمو والانفتاح والتجدد.
ولعل أجمل ما في فهم الشخصية أنه يعلّمنا الرحمة؛ الرحمة بالذات، حين ندرك هشاشتنا، والرحمة بالآخر، وحين نعلم أن وراء كل سلوك حكاية لم تُروَ.
فالشخصية ليست ما نُظهره فقط، بل ما نكتمه، وما نحلم به، وما نصبو لأن نكونه. إنها في النهاية، رواية الإنسان عن نفسه.. رواية يكتبها كل يوم، بالحبر الذي تصنعه الوراثة، والتجربة، والاختيار.
** **
- كاتب وباحث هندي