ناصر زيدان التميمي
من أعظم ما جاء في السنة النبوية حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك».
جملةٌ قصيرة، لكنها تحمل من المعاني ما يتجاوز حروفها، وتغوص بنا في عمق علاقةٍ مقدسة، أساسها البر، ولبُّها العرفان، وروحها الإحسان.
قد يتبادر إلى الأذهان أن هذا الحديث يخص المال فحسب، لكنه في حقيقته أعظم من ذلك. إنه تذكير رقيق، يلامس القلوب قبل العقول، بأن الأب ليس مجرد والد، بل هو الأصل، والسبب بعد الله في كل نعمة نعيشها.
فما من ابنٍ بلغ، ولا من شابٍ ارتقى، ولا من رجلٍ استقام، إلا وكان خلفه والدٌ تعب، وسهر، وربّى، وعلّم، وتحمّل في صمت. فجاء هذا الحديث ليقول للابن: إنك، وكل ما تملك، إنما هو من فضل الله ثم من فضل أبيك.
حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت ومالك لأبيك»، لم يكن ذلك لإعطاء سلطة مطلقة للأب، بل لإعلاء قيمة البرّ، وتأكيد أن الوالد لا يُعامل كما يُعامل الناس، بل يُقدَّم ويُكرَّم، ويُبَرّ، حتى وإن كان في غنى عن مال ابنه.
وقد فهم العلماء هذا الحديث في إطار البرّ لا الملكية، فقالوا: «للأب أن يأخذ من مال ولده ما لا يضرّه، ما دام لحاجة أو مصلحة، وبغير جور ولا تفضيل».
فالإسلام، الذي حفظ للابن ذمته المالية، لم يجعل برّ الوالدين خاضعًا لحسابات المال، بل جعله طاعةً، وعبادةً، وسببًا للرضا والبركة.
برّ الوالدين ليس ترفًا خُلقيًا، بل فريضة عظيمة، قرنها الله بعبادته في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا..} (23) سورة الإسراء.
وما الحديث «أنت ومالك لأبيك» إلا شاهد من شواهد هذا الإحسان، يرشد الابن إلى ألا يستكثر على أبيه شيئًا، بل يراه أهلاً لكل خير، ومستحقًا لكل فضل، ولو كان أغلى ما يملك.
قف لحظة وتأمل:
من الذي حملك صغيرًا؟ من الذي عمل بصمت لأجل أن تلبس، وتأكل، وتتعلم؟ من الذي ضحّى براحته وسعادته لينسج لك مستقبلاً آمنًا؟ أليس هو والدك؟
فهل يُعقَل أن يُضنّ عليه بشيء من المال، أو يُعاب عليه أن يُدلي برأي، أو يُستثقل له طلب؟
إن الحديث الشريف لا يُستغل، بل يُفهم.
ومن فقهه كما ينبغي، أدرك أنه ليس نصًّا في قسمة الأموال، بل آية من آيات البرّ، وعنوانًا للعطاء الذي لا يُرد، والإحسان الذي لا يُقابل بمثل.
في زمن تسود فيه الماديات، تذكّر أن برّ والدك هو أغلى استثمار، وأصدق عبادة، وأعظم طريق لرضا الله.
فإن كنت بارًا، فالبركة في عمرك ومالك وولدك.
وإن كنت محسناً، فالجزاء من جنس العمل، واليوم أنت ابن، وغدًا ستكون أبًا.
«أنت ومالك لأبيك» ليس حصرًا ولا قيدًا، بل تاج شرف، وسنام برّ، ومدرسة وفاء تُخرّج أجيالاً تُحب وتُقدّر وتُحسن لمن كانوا سببًا في وجودها.