اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
إن المواجهة التي اشتعلت بين الكيان الصهيوني وإيران تعتبر مواجهة ذات طابع هجين وأبعاد متداخلة وأهداف متكاملة، يمتد فيها ميدان الصراع من الأرض إلى الفضاء الرقمي، وما يعنيه ذلك من أسلحة قتال حرجة وأساليب سيبرانية ووسائل إلكترونية؛ مما يتطلب من الكاتب عندما يكتب عن هذه الحرب أن يتطرق إلى الفرق بين أهداف القوة وأهداف القيمة في مجال العمل العسكري.
وعلى هذا الأساس، فإن هدف القوة يمكن فهمه بطرق مختلفة حسب السياق والغاية من امتلاك القوة، بوصف هدف القوة في سياق العمليات العسكرية هو الهدف الذي يتحكم في مسار العمل العسكري من حيث النجاح أو الفشل، وهذا الهدف يتعين أن يخدم الغاية الإستراتيجية ويكون واضحاً ومحدداً وقابلاً للقياس باعتباره يمثل مكوناً من مكونات القوة القتالية على مستوى التشكيل.
وهدف القيمة يرمز إلى الأهداف التي يُنظر إليها بأنها أهداف ذات قيمة إستراتيجية عالية للخصم، وعلى قدر كبير من الأهمية وتدميرها أو تعطيلها يؤثر بشكل كبير على قدرة العدو على القتال، وعندما يكون الهدف ذا قيمة عالية فإنه يشكل أهمية إستراتيجية للخصم يصعب عليه تحمل الخسارة المترتبة عليها، وتحديد هذا الهدف بدقة يوفر الوقت والجهد ويقلل الخسائر، كما يؤثر على معنويات الخصم ويمنح القوات الصديقة ميزة عسكرية واضحة، وتدمير هذا الهدف أو الاستيلاء عليه أو تعطيله يحقق نجاحاً عسكرياً مؤكداً يؤثر تأثيراً مباشراً على العدو كما هو الحال بالنسبة لمراكز القيادة والسيطرة ومخازن الأسلحة والذخيرة الحرجة والمطارات ومحطات الطاقة والبنى التحتية وقادة العدو ومنصات إطلاق صواريخه وقواعده ومقراته العسكرية.
ومعرفة هذه الأهداف تتطلب قيادة عسكرية منهجية تستغل الفرص المتاحة وتعتمد على الأولويات الحقيقية بعيدة عن الممارسات العشوائية والتصرفات الخاطئة مع التركيز على كل حالة ذات عائد استراتيجي.
والمشروع القومي الصهيوني والمشروع القومي الإيراني يدوران في فلك أهداف القوة والقيمة في مفهومها العام وبينهما تخادم وتصادم، وعندما أصبحت إيران قاب قوسين أو أدنى من أنتاج القنبلة النووية طغى الثاني على الأول نتيجة لبلوغ الصراع بين الكيان الصهيوني وإيران ذروته ووصول تخادم المصالح بينهما إلى طريق مسدود، عندئذٍ أصبح الصراع بالوكالة صراعاً مباشرا وتحول تخادم المصلحة إلى تصادم بالأسلحة.
وقد بدأت الدولة العبرية هذه الحرب التي تدور رحاها بينها وبين إيران، مستخدمة أساليب الخداع والجاسوسية والأنشطة الاستخباراتية مع الاستعانة بالطرق السيبرانية والتكنولوجية على نحوٍ مكنها من إطلاق المسيرات والمقذوفات من الداخل الإيراني لتعطيل ما أمكن تعطيله من أجهزة الإنذار وأنظمة الدفاع الجوي وما أدى إليه ذلك من التهيئة للهجوم الجوي واغتيال القادة والعلماء.
ويوجد لدى الكيان الصهيوني جهاز استخبارات يتجاوز اهتمامه الجانب العسكري إلى الجوانب السياسية والاقتصادية، جامعاً بين جمع المعلومات عن الخصم من جهة، وممارسة التخريب العسكري والسياسي والاقتصادي بالنسبة للخصم من جهة أخرى، مع اختراق الداخل الإيراني والجالية اليهودية الإيرانية وتوجيه الجهة المخترقة طبقاً للمخطط المرسوم الذي يؤمن بمبدأ الجاسوسية الشاملة، وتجنيد العملاء وأعمال التجسس والتخريب لصالح الكيان الصهيوني.
وتأسيساً على ما سبق، وبفضل الخداع المدروس والمخطط له بدقة ووسائل الحرب السيبرانية والاختراقات الإلكترونية والتعتيم على شاشات الرادارات وتعطيل جانب من وسائط وأنظمة الدفاع الجوي استطاع سلاح الجو الإسرائيلي السيطرة على الموقف والوصول إلى أهدافه المتمثلة في مراكز القيادة والسيطرة والقواعد العسكرية ومقرات الحرس الثوري والمنشآت النووية والصناعية ومنصات إطلاق الصواريخ وشبكة الاتصالات العسكرية، مما أسفر عن إنجاز مهامه القتالية والتدميرية التي تجمع بين أهداف القوة ذات القيمة وأهداف القيمة.
وتُؤمن الدولة العبرية بأن القوات الجوية هي الذراع الطويلة لها والسلاح المسيطر في المعركة وأن التفوق الجوي يُشكل المدخل إلى النصر، الأمر الذي يتطلب الاهتمام بالتفوق النوعي من خلال الاهتمام بالطيار والطائرة لضمان كفاءة القوات الجوية ودرجة استعدادها للقتال والتكيف مع حالات القتال الجوي بمختلف عملياته وأساليبه.
وعلى الجانب الآخر، فإن إيران التي تمتلك أكبر ترسانة صاروخية وطائرات مسيرة في المنطقة تفاجأت بالهجوم وغلب عليها الوجوم من شدة الصدمة وظلمة العتمة إلى الحد الذي أدى إلى ارتباك مسارها وتأخير قرارها، إذ وجدت نفسها بعد تصدير الثورة مكشوفة العورة، والتهديد والوعيد حل محله رد الفعل الباهت الذي فتح شهية الشامت.
وبعد تضميد الجراحات ومعالجة بعض الاصابات تبلور رد الفعل الإيراني عن طريق استهداف الدولة العبرية بصواريخ وطائرات مسيرة، يتم إطلاقها على فترات ضد أهداف غير واضحة من حيث الهوية ودرجة الأهمية، ثم تطور الموقف إلى تطور المقذوفات وزيادة وتيرة إطلاقها مستهدفة أهدافاً مدنية ذات صلة بأهداف القيمة بطريقة أثارت الخوف والذعر على مستوى الفرد والمجتمع داخل الدولة العبرية.
وترسانة إيران من الصواريخ الباليستية والمسيرات منع الكيان الصهيوني من استثمار تفوقه في القوات الجوية والقاذفات الشبحية، وحرمه من الاستفادة من قبته الحديدية، مما اضطرهُ إلى الاستعانة بالحليف الأمريكي لكي يقف إلى جانبه دون أن يضع في حسبانه أن دخول أمريكا على الخط قد يزيد من وتيرة التصعيد ويزج بالصراع في متاهات التعقيد.
ويضاف إلى ما تحقق لإيران من رد اعتبار بفضل مخزونها من الصواريخ الباليستية والمسيرات، تلك العوامل الجغرافية والديمغرافية التي تتحكم في مصير الدولة العبرية بسبب موقعها المكاني ووضعها السكاني، وما يستدعيه ذلك من ضرورة نقل الحرب خارج حدود الدولة العبرية وعدم إطالتها، حيث إن طبيعة المكان وحالة السكان لا تسمح بذلك فضلاً عن أنها تجعل مقذوفات إيران الطائشة تؤثر في الداخل الإسرائيلي بصورة سلبية، وتبدو للآخرين كأنها موجهة إلى أهداف ذات قيمة.
وأثناء مساندة الإدارة الأمريكية للكيان الصهيوني في المواجهة الدائرة بينه وبين إيران وبالتحديد في اليوم العاشر من بداية الهجوم الأول حيث تعرضت إيران لخدعة مدبرة لا تقل إيلاماً وقسوة من الخدعة الأولى، وذلك من قبل أمريكا التي هاجمت قاذفاتها الشبحية ثلاثة مفاعلات نووية إيرانية، ممهدة لذلك بعمليات استخباراتية واستطلاعية وهجمات سيبرانية وإلكترونية ضد أنظمة القيادة والتحكم الإيرانية دون أن تكتشف إيران القاذفات المهاجمة أو تطلق عليها طلقة واحدة.
وإذا كانت الأحداث تتكرر والشيء بالشيء يذكر فما أشبه الليلة بالبارحة حيث إن رد إيران على القصف الأمريكي لمنشآتها النووية بإطلاق صواريخ على قاعدة أمريكا في قطر يذكر بإطلاق الصواريخ على قاعدة عين الأسد الأمريكية في العراق والإبلاغ عنها قبل إطلاقها في سابقة تتنافى مع خدعة الحرب ومفاجآتها وعدم التمييز بين العدو العاجل والعدو الآجل والتآمر مع الأعداء ضد الأشقاء يمثل ذلك علامة استكانة وبصمة خيانة وفقدان أمانة، ومن وضع نفسه في محل التهمة فلا يلومن إلا نفسه.