د.إسحاق بن عبدالله السعدي
مع بداية كل عام هجري جديد تتجدد ذكرى الهجرة النبوية الشريفة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، ذلك الحدث التاريخي المبارك الذي شعت أنواره وعم خيره وجاء رحمة للعالمين بما تضمن من قيمٍ، وما رسخ من عقائد التوحيد، والعبادة الخالصة لله وأحكام الشرع الأغر الذي أقام الميزان في الأرض تحت كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله.
تتجدد الدروس والعبر والآيات والمعجزات بما يثري الحياة بالعلم والحكمة والخبرة من منهل السيرة النبوية العذب المبارك، يرفدها كتاب الله المجيد، وحديث المصطفى الكريم.
تصرم الزمان ومرت مئات الأعوام وعشرات العقود والهجرة النبوية تفيض بالخير وتشع بالنور، بعد ألف وأربعمائة وستة وأربعين عاماً تتجدد الذكرى، وتدخل في عام جديد لتحيي في النفوس معاني الصبر والعزم، والطهر والنقاء، وسعة الأفق وقوة الأخلاق، وقيم التسامح والصفح، والثقة في الله، والترفع عن المصالح الشخصية والمماحكات الآنية ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، والسعي لإنقاذ البشرية من الجهل والظلم والأنانية.
تظل الثلاثة عشر عاماً التي عاشها المصطفى الكريم قبل هجرته للمدينة، وما سبقها منذُ مولده الميمون المبارك حتى زمن بعثته المدوي في أرجاء السموات والأرض، إذ تنزل عليه القرآن الكريم في غار حراء السامق، وقد حُرِسَتْ السماءُ من مسترقي السمع، هذا الحدث وما تلاه من أحداث هزت العالم بأسره، وهزتْ شجرةَ الحياةِ بحيوية النبوة، وثمرات الرسالة اليانعة المغدقة عبر تاريخ الإسلام المشرق بقيم الحق والعدل والبر والإحسان، التي انتشرت في أرجاء المعمورة ما بلغت الشمسُ وما بلغ الليل والنهار.
تنثال التوجدات بغزارة وشجن في غرة العام الهجري الجديد، وترتسم في الذهن الأمكنة والأزمنة؛ مدارج النبي المصطفى الكريم، وظروف النبوة ومعجزاتها ومنابر الرسول وختم الرسالة، وتنزل الرحمة ومراكز إشعاعها، ومنطلقات شيوعها في آفاق الحياة والزمن؛ يرتسم في الذهن ذلك الجبل الأشم المهيب جبل النور المتسربل بالجلال والطهر والنقاء والصفاء، وهو يستقبل كلام الله وكأنما يرتفع للملكوت الأعلى، يتألق في آفاق الرفعة والجلال والأنوار تفيض منه، وتشع فيما حوله في هالة قدسية تتدفق أنوارها وبركاتها على الكعبة المشرفة والمدينة المنورة وتنير الآفاق واصلة ما بين الأرض والسماء بله الكون كله.. يعرض للوجدان غار حراء بمهابته وشموخه وطهره، وقد شَرُفَ بالوحي ابتداءً وتناهت إليه في الحاضر أصداءُ البيتِ الحرام بتلاوة القرآن الكريم، وتعانقت أنواره بأنوار الكعبة المشرفة؛ صور تختزل التاريخ في ومضة، والزمان في لحظة، منذُ الأمر الإلهي المجيد بالقراءة والإشادة بالقلم والعلم والتعليم، حتى تم الاضطلاع بالرسالة العظمى رسالة العلم، والتعليم، والنور، والإكرام، اكتمل البنيان الحضاري لأمة الإسلام وغدت تشق عنان السماء الآيات والتكبيرات من مآذن الحرمين الشريفين وسائر المساجد والجوامع في شتى البقاع والأصقاع، حتى لا تمر لحظة من الوقت إلا والآذان يرتفع لعنان السماء على مدار الأربع والعشرين الساعة وفق ما رصدته الدراسات والتقارير العالمية.
إنَّها الرسالة الخالدة التامة الكاملة التي حمل لواءها سيد ولد آدم خيرُ خلق الله وأزكاهم: المصطفى الصادق الأمين، نبياً مرسلا وهادياً ومبشراً ونذيراً وسراجاً منيراً ورحمة للعالمين.
تسافر الروح في الزمان المقدس والمكان المقدس منذ درج محمد بن عبدالله ببطحاء مكة وهاجر للمدينة ليقيم صرح الإسلام، ومنذُ نشأت بين كفيه الزكيتين النبتة المباركة نبتة الثقافة، وانطلقت بين يديه مسيرة الحضارة الراشدة حضارة الإسلام؛ إنسانية الخلال مدنية التقنيين والتشريع، عالمية العلم والمعرفة. ذكرى الهجرة تزخر بهذه المعاني والدلالات، مثلها مثل بستان يانع الثمرات طيب التربة، تتفتق أكمامه بأزهى الألوان، وتعبق أزهاره ووروده بأريج الروح الشفيفة والفكر المستنير. يحل كلُّ عام هجري جديد كمثل الحديقة الغناء، والبستان الخصيب الزاخر بالرواء والظلال والعطاء، وكأنها مأدبة تهبط من السماء بالسلوان والرضوان.
يأتي العام الهجري الجديد ليحيي في النفوس الدروس المتنوعة التي تغطي الجوانب الفكرية والعلمية والثقافية والاجتماعية والنفسية في تكامل رشيق وتوازن بديع؛ مثل خالدة وقيم أصيلة تعزز الشعور بالوجود الخيِّر والتواصل الحضاري النبيل؛ تكمن في هجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: معاني الحق وقيم الخير والسلام والقوة المعنوية المتصلة بحقيقة الوجود ومعنى الحياة ورسالة الإنسان في الحياة، ففي كل خطوة على طريق الهجرة درس وموعظة، وعظة وعبرة، تصدر عن قيمة حقة، وتؤسس لمبدأ إنساني نبيل، وتكشف عن سنة من سنن الله في النفس والكون والوجود، حفلت بها أحداث السيرة وسطرتها كتبها باستفاضة وتفصيل دقيق، بيد أنَّ المرتكز الأساس في ذلك كله، والذي هو حقيقة الهجرة وعاقبة أمرها هو: الهروب للسلام في أرض السلام بلغة السلام ومن أجل السلام، يشهد لهذه القيمة الأصيلة، وذلك المبدأ الإنساني السامي النبيل وتلك السنة الإلهية الماضية قول الله تعالى: (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا)؛ ثقةً بالله اللطيف الخبير، وفي قصة أم معبد وانبهارها بمرور المصطفى وصحبه بخيمتها، ووصفها لما رأت من صفاته والبركة التي حلّت في دارها بحضوره:
لِيهن بني كَعْب مَكَان فَتَاتهمْ
ومقعدها للْمُؤْمِنين بِمَرْصَد
سلوا أختكم عَن شَاتِهَا وإناثها
فَإِنَّكُم إِن تسألوا الشَّاة تشهد
دَعَاهَا بِشَاة حَائِل فتحلبت
عَلَيْهِ صَرِيحًا صرة الشَّاة مُزْبِد
فغادرها رهنا لَدَيْهَا لحالب
يُرَدِّدهَا فِي مصدر ثمَّ مورد
تلك الأشعار التي ترامت بها أصداء جبال مكة لتودع الطاهر المطهر.
جزى الله رب النَّاس خير جَزَائِهِ
رَفِيقَيْنِ حلا خَيْمَتي أم معبد
هما نزلا بِالْبرِّ ثمَّ ترحلا
فأفلح من أَمْسَى رَفِيق مُحَمَّد
قيم تترا ومبادئ تتعانق، حتى إذا شارف الركب الميمون مهاجر المصطفى شرع في بناء مسجد قباء، ثم المسجد النبوي الشريف إيذاناً بتكوين مجتمع مدني زاهر، وإرساءً لقيم العمل؛ العمل المؤسسي الحضاري، ستظل وقائع الهجرة النبوية وأحداثها براهين حق ومعالم هداية وقيم خير وحضارة وسلام، ثم إنه في كل عام هجري جديد يهل هلاله، تعبق الروح بمتعة الذكرى واستلهام السيرة النبوية العطرة، كالمرافئ على بحور العلم والمعرفة وكالشرفات على الفضائل والمكارم والمحامد، ترفد الثقافة الفردية والمجتمعية؛ قيماً وسلوكاً، وتصقل الشاعرية بالذكريات الماجدة الخالدة.
لا غرو فــ(للمرء في ذكرياته مجد مخلد).
** **
- باحث في الدراسات المستقبلية