في زمن تتسارع فيه التقنيات وتتعدد فيه مصادر التعلم، أصبحت رحلة الفنان السعودي في التدريب الفني أكثر تعقيدًا وحيرة من أي وقت مضى. فبين الحاجة إلى تطوير المهارة وتوسيع الأفق، تبرز تحديات تهدد أصالة التجربة الإبداعية، أبرزها الوقوع في فخ التقليد أو استنساخ تجارب الآخرين. فالتدريب الناجح لا يقتصر على التلقين، بل يتطلب وعيًا نقديًا وقدرة على تحويل المعرفة إلى بصمة فنية فريدة. ومع تنوّع مصادر التدريب بين الحضور المباشر، والمنصات الرقمية، ووسائل التواصل، تزداد الحاجة إلى تنظيم هذه التجربة، لهذا نسعى بهذا الطرح لفهم جوانب الموضوع ونوضح بداية بالمقارنة البسيطة بين مفهوم التدريب والتأهيل.
o التأهيل: يُقصد به إعداد الفرد ليكون قادرًا على ممارسة مهنة أو تخصص معين لأول مرة. يتضمن التأهيل عادة مقررات تأسيسية وأساسية، مثل دراسة الفنون في كلية أو معهد، ويمنح الفنان المعرفة النظرية والعملية الأساسية.
o التدريب: يُركّز على تطوير المهارات الفنية أو صقلها بعد التأهيل. يتم عبر ورش عمل، دورات قصيرة، تعليم مباشر أو عن بُعد، ويستهدف تحسين جودة الأداء أو اكتساب تقنيات جديدة.
باختصار فالتأهيل هو البداية الأكاديمية أو العملية لمجال معين، بينما التدريب هو استمرار التطوير داخل نفس المجال.
ولهذا نؤكد على أهمية تلقي الفنان التشكيلي السعودي التدريب بمجاله الفني لأنه يعد:
1. مواكبة التغيرات: الفنون تتطور بسرعة، خاصة مع التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي، والتدريب يساعد الفنان على مواكبة هذه التغيرات.
2. تنمية المهارات الشخصية والتقنية: يُعزز من قدراته في الرسم، التلوين، التكوين، والتعامل مع المواد والخامات المختلفة.
3. الاحتكاك بالخبرات: سواء من خلال فنانين ذوي خبرة مباشرة أو عبر الإنترنت، يحصل المتدرب على معرفة لا تتوافر في الكتب وحدها.
4. التوسع في الفكر الفني: التدريب يفتح للفنان آفاقًا جديدة من حيث الأساليب والمدارس الفنية والرؤى الإبداعية.
وهناك أشكال مختلفة من التدريب للفنان التشكيلي تتنوع ما بين: التدريب المباشر من فنان ذي خبرة: يتم في الاستوديوهات أو المعاهد، ويتيح التفاعل العملي والملاحظات الفورية. أو التدريب عن بُعد: يتم عبر منصات تعليمية أو فيديوهات مسجلة، ويتميز بالمرونة وسهولة الوصول. أو التدريب من خلال وسائل التواصل كمتابعة فنانين محترفين على منصات مثل إنستغرام ويوتيوب، والتفاعل مع محتواهم التعليمي، وهي وسيلة غير رسمية لكنها فعالة نوعا ما.
وهذا التدريب للفنان التشكيلي يمنحه فوائدا عدة منها:
- تحفيز الإبداع والتجديد.
- زيادة الثقة بالنفس والاحترافية.
- فتح فرص العرض والمشاركة في المعارض والمسابقات.
- بناء شبكة علاقات داخل المجتمع الفني.
- تحسين فرص التسويق الشخصي والمهني.
لكن كل أمر له جانبان إيجابي وسلبي رغم أهمية التدريب، إلا أن هناك بعض السلبيات التي قد تظهر، منها:
1. الاعتماد الزائد على أسلوب المدرب والتأثر به: مما قد يُضعف من تفرد الفنان وشخصيته الفنية، مما يخرج للساحة التشكيلية نسخا أخرى من هذا الفنان.
2. المحتوى غير الموثوق في بعض الدورات أو على وسائل التواصل: قد يؤدي إلى تبني تقنيات غير دقيقة أو مشوشة.
3. الإرهاق أو التشتت بين أساليب فنية متعددة: خاصة إذا لم تكن هناك خطة تدريبية واضحة.
4. التكلفة المادية: بعض الدورات الفنية قد تكون مرتفعة الثمن، ما يشكل عائقًا لبعض الفنانين، وهذا ملاحظ حاليا بارتفاع أسعار هذه الورش التي ترجع لارتفاع أسعار المواد وايجار القاعات.
رغم أهمية التدريب في تطوير المهارات وصقل الموهبة، إلا أن الإفراط فيه، أو اعتماده بشكل غير منهجي، قد يؤدي إلى نتائج سلبية. ومن أبرز هذه السلبيات:
1. فقدان الهوية والأسلوب الشخصي، فعندما يتلقى الفنان تدريبًا مكثفًا على يد فنان أو مدرسة فنية معينة، قد يتأثر بشدة بأسلوب المدرب، ويبدأ لا شعوريًا بتقليده، مما يُضعف من تفرّده. والنتيجة: يصبح أسلوب الفنان تابعًا، غير مميز، ويصعب تمييز أعماله عن أعمال معلمه. ومثال ذلك: بعض الفنانين الناشئين في ورش تعليمية تعتمد على نسخ الأعمال الجاهزة، يفقدون القدرة على الابتكار الشخصي مع الوقت.
2 - تضارب الأساليب الفنية: فالتنقل العشوائي بين دورات تدريبية من مدارس وأساليب مختلفة (كلاسيكية، حداثية، تجريدية…) قد يؤدي إلى تشتت بصري وفكري. والنتيجة: ينتج الفنان أعمالًا غير متسقة من حيث الأسلوب أو الرسالة، ما يضعف هويته الفنية. والتنقل دون خطة من دورة أكريليك إلى دورة جرافيتي إلى دورة رقمية قد ينتج أعمالًا غير ناضجة من حيث السياق الفني العام.
3 - الاعتماد المفرط على التوجيه، فبعض الفنانين، خصوصًا في المراحل المبكرة، قد يعتمدون كليًا على النقد والتصحيح المستمر من المدرب، ما يضعف من ثقتهم بقراراتهم الفنية الخاصة. والنتيجة: يصبح الفنان مترددًا، ينتظر التوجيه دائمًا، ولا يجرؤ على التجريب أو الخروج عن المألوف.
4 - المحتوى الرديء أو غير الموثوق، خاصة في دورات الإنترنت أو محتوى وسائل التواصل، قد يتلقى الفنان معلومات غير دقيقة أو مغلوطة عن تقنيات الرسم، نظرية اللون، أو أساليب التكوين. والنتيجة: يبني الفنان معرفته على أسس ضعيفة، ما ينعكس على جودة أعماله ويُقلل من فرصه في التميز المهني. فعلى سبيل المثال: مقاطع فيديو سريعة على تيك توك أو إنستغرام قد تُبسّط تقنيات معقدة بشكل مخل، مما يُشوّه الفهم الفني الحقيقي.
5 - الاستنزاف المادي والزمني، فبعض الورش والدورات مكلفة جدًا، وقد لا تُقدم محتوى يتناسب مع هذه التكلفة. والنتيجة: يشعر الفنان بالإحباط، وقد يتوقف عن متابعة التطوير نتيجة تجربة تدريبية مخيبة.
6- تأثيرات نفسية سلبية، ففي بعض البيئات التدريبية، خاصة التي تعتمد على نقد مباشر أو مقارنات غير بنّاءة، قد يشعر الفنان بالإحباط أو نقص الكفاءة. والنتيجة: يتراجع الحماس، وتظهر أعراض مثل فقدان الدافع أو التوتر عند ممارسة الفن. وقد نسمع أن بعض الفنانين تركوا المجال مؤقتًا بسبب نقد جارح من مدرب في ورشة عمل.
والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يمكن تقليل سلبيات التدريب الفني للفنانين التشكيليين؟
رغم أن التدريب يُعد أداة حيوية لتطوير الفنان، إلا أن إدراك مخاطره المحتملة والتعامل معها بوعي يضمن أن يكون التدريب محفزًا للنمو، لا معوقًا له. وفيما يلي استراتيجيات فعالة لتقليل السلبيات:
أولا: وضع خطة تدريبية شخصية واضحة:
o لا يُنصح بالتنقل العشوائي بين الدورات والورش، بل يجب أن يكون لكل فنان خطة تدريبية تتناسب مع مستواه وأهدافه.
o الخطة يجب أن تُراعي:
o مهاراته الحالية
o الجوانب التي يريد تطويرها
o الوقت المتاح له
o الميزانية المخصصة للتدريب
مثال: فنان يريد تطوير مهارات الرسم الواقعي قد يبدأ بدورات في التشريح، ثم الضوء والظل، قبل الانتقال للتلوين.
ثانيا: اختيار المحتوى والمدرب بعناية:
o يجب أن يكون المدرب ذا كفاءة مثبتة، إما من خلال سيرة فنية موثوقة أو أعمال منشورة أو تقييمات المتدربين. كما يُفضل أن تكون المادة التعليمية قائمة على أسس علمية ومراجع فنية موثوقة، لا على اجتهادات شخصية غير مدروسة.
ونصيحة: اسأل نفسك قبل التسجيل: «هل هذا المدرب يُشجع على الاستقلال الفني؟ أم يجعل الجميع نسخة منه؟»
ثالثا: الحفاظ على الأسلوب الفني الشخصي:
o بعد التدريب، من المهم أن يعيد الفنان هضم المحتوى بطريقته الخاصة، لا أن يكرره حرفيًا.
o يمكن تحقيق ذلك عبر:
o تجريب ما تعلمه على مواضيع تخصه
o دمج التقنيات الجديدة بأسلوبه السابق
o عدم نشر الأعمال التدريبية كما هي، بل بعد إعادة صياغتها بأسلوبه
رابعا: تجنب الاعتماد الزائد على النقد:
o النقد البنّاء مفيد، لكن على الفنان أن يتعلم اتخاذ قراراته الفنية بنفسه.
o يمكن تقليل الاعتماد على الآخرين من خلال:
o تحليل أعماله السابقة وتحديد تطورها
o استخدام مراجعة ذاتية منظمة (مثل أسئلة: هل هذه اللوحة تعبر عني؟ هل أستطيع الدفاع عنها؟)
o التفاعل مع جمهور حقيقي غير منحاز، مثل الزوار في معرض.
خامسا: الاعتماد على مصادر متنوعة وموثوقة:
o بدلاً من الاعتماد على دورة واحدة أو أسلوب واحد، يمكن للفنان أن يُثري نفسه بقراءة الكتب، متابعة مقابلات مع فنانين عالميين، زيارة المعارض، ودراسة تاريخ الفن. فهذا التنوع يُنتج منظورًا أوسع وأكثر نقدية، ويقلل من الوقوع في فخ «النسخ».
سادسا: التقييم المالي العقلاني للدورات:
o بعض الدورات قد تكون باهظة بلا مبرر. من المهم أن يُقيّم الفنان:
o ما الذي سيضيفه له هذا التدريب؟
o هل يمكن تعويضه بمصادر مجانية أو أرخص؟
o هل المدرب يقدم محتوى مخصصًا أم عامًا؟
سابعا: الانخراط في مجتمع فني متوازن:
o التفاعل مع فنانين آخرين - سواء عبر مجموعات واقعية أو رقمية - يُساعد على بناء مناعة فنية ضد الانبهار الزائد بالمدرب أو التقليد. كما أن الحوار بين الأقران يعزز التبادل النقدي الصحي ويخلق بيئة دعم مستمرة.
ثامنا: التركيز على «التدريب كتجربة» لا كحكم نهائي:
o على الفنان أن يعتبر كل تدريب مرحلة يتعلّم منها ويستخلص ما يناسبه فقط، لا أن يراها «قالبًا» يجب اتباعه. فالخطأ في التدريب لا يعني الفشل، بل فرصة لفهم الذات بشكل أعمق.
رغم أهمية وجود مؤسسات تنظم وتقدّم التدريب، فإن مسؤولية الفنان الفردية تبقى جوهرية في نجاح تجربته التدريبية. فالفنان هو أول من يحدد احتياجاته، ويقيّم مستواه، ويسعى إلى تطوير ذاته بوعي. ومن هنا، فإن من أهم أدوار الفنان:
o البحث النشط عن مصادر موثوقة للتدريب: سواء من خلال المؤسسات المعتمدة، أو الفنانين ذوي السمعة المهنية، أو المنصات المعروفة بجودتها.
o طرح الأسئلة والتفاعل الواعي مع المُدرّبين: بدلاً من التلقّي السلبي، ينبغي للفنان أن يسأل ويناقش ويفكر.
o الانتباه إلى التوازن بين التأثر والإبداع الشخصي: أي عدم الوقوع في فخ نسخ الأساليب، بل تحويل المعرفة إلى أسلوب ذاتي فريد.
o تقييم التجربة التدريبية بعد انتهائها: ما الذي تعلمه؟ وما الذي لم يكن مفيدًا؟ وكيف يمكنه التطوير مستقبلاً؟
أما فيما يخص حقوق الفنان في التدريب، فهي تشمل:
1. الحصول على تدريب بجودة عالية من جهة معترف بها، سواء كان حضوريًا أو إلكترونيًا.
2. احترام خصوصيته الفنية وعدم إجباره على نمط أو أسلوب معين.
3. توفر بيئة تعليمية آمنة ومحفّزة، خالية من الاستغلال أو التمييز.
4. الحصول على شهادة أو توثيق رسمي يفيد بمشاركته وتطوره.
5. الشفافية في رسوم التدريب ومحتواه وجدول تقديمه.
وختاما نؤكد على أنه من المهم أن يكون للفنان وعي قانوني ومهني بهذه الحقوق، وأن يطالب بها عند الحاجة، لضمان أن تكون تجربته التدريبية حقيقية وثرية لا تجارية أو استغلالية.
** **
- د. هناء بنت راشد الشبلي