د.محمد بن عبدالرحمن البشر
من منا لا يعرف ابن خلدون وميكافيلي، فمن يحسن القراءة والكتابة لابد أنه قد قرأ أو سمع عنهما، والمقارنة بين ابن خلدون وميكافيلي كانت وما زالت وستظل قائمة، يتحاور حولها المتحاورون، ويتفلسف فيها المتفلسفون، وكل يدلي بدلوه من وجهة نظره، وما تمليه جبلته وثقافته والظروف التي أحاطت بمسيرته، وما لاقى من سرور وخطوب، وارتفاع وهبوط، سوف يسطر حولها كما سطر ابن خلدون وميكافيلي، بحضور دافع فطري، وألم دهري، وردة فعل على مواقف واجهها، وثقافة عاشاها، وربما أن الكثير منا قد حمل أو يحمل ذات الأفكار لكنه لم يسطرها، فتذهب كما ذهب جسده أديما يسير عليه من لحقه من أجيال متعاقبة، دون أن يكون له ذكر باق.
ابن خلدون عالم مسلم حضرمي الأصل، كما يقول، وكما نقله لنا ابن حزم الأندلسي العالم المشهور، صاحب كتاب المحلى، وطوق الحمامة، وغيرهما من الكتب، وصلنا بعضها وأحرقت السياسة جلها، فهو يذكر أن عائلة ابن خلدون، قدمت إلى الأندلس، واختارت إشبيلية مقراً لها، وأصبح لهم شأن كبير في العلوم والرئاسة، وشاركوا في بعض الأحداث السياسية، وبعد أن اضطربت الأمور في أطراف الدولة الأموية في عهد عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن بن الحكم بن هشام بن عبدالرحمن الداخل، حاولوا الاستقلال بإشبيلية، لكن منافسات العائلات النبيلة الأخرى لهم سهلت على الأمير عبد الله بن محمد القضاء على تلك الثورات، فخبا نجمهم، ثم سطع مرة أخرى في عهد الطوائف مع ابن تاشفين المرابطي في معركة الزلاقة المشهورة، وبعد ذلك رحل جدهم الأعلى إلى تونس في عهد الحفصيين فنالت أسرتهم من الجاه والمال والتقدير الشيء الكثير، وتوارثتها الأجيال، ومات والده بداء الطاعون الذي اجتاح العالم وحصد ملايين البشر، وكان عمره آنذاك ثمانية عشر عاماً، واستدعاه حاجب السلطان المغلوب على أمره في تونس ليعمل كاتب العلامة، ثم دفعه طموحه إلى أن يلعب في ميدان السياسة، ويكون طرفاً في بعض الأحداث في تونس والمغرب وتلمسان ومصر التي ذهب إليها لاحقاً، وعاش فيها حتى مات.
ميكافيلي عاش بعد ابن خلدون بقرن تقريباً، وكان من عائلة نبيلة توارثت النبل في فلورنسا بإيطاليا، وكانت أسرته من المبغضين لعائلة ميدتشي الحاكمة، والتى فقدت حكمها، وعين مستشاراً، ثم عادت العائلة إلى الحكم، واتُهم بأن له دورا في الإطاحة بها، وسجن سنتين ثم تشفع له البابا فخرج من السجن، ولم ينل نصيباً كافياً من العلم. ألف كتابه المشهور الأمير، وهو مجموعة من النصائح الانتهازية التي تجعل الغاية تبرر الوسيلة، وقد مارسها بنفسه لكنها لم تجلب له خيرا.
ابن خلدون ألف كتابه العبر، وكانت مقدمته أشهر من كتابه وقد ألفها في خمسة أشهر، وعمره خمسة وأربعين، بعد أن اعتزل السياسة مؤقتاً، وعاش بعيداً عن المدن عند قبيلة بني عريف البربرية مكرماً معززاً.
يمكننا القول: إن هناك قواسم مشتركة بين الاثنين فكلاهما قد مارسا السياسة، واستخدما شتى الوسائل والمؤامرات للوصول إلى المناصب، التي سمها ابن خلدون: غواية الرتب، وقد استقرأ ابن خلدون التاريخ فأخرج لنا علم الاجتماع، ووصف السلوك البشري، وربطه بالبيئة والحيوان، أما ميكافيلي، فقد وثق ما كان سائداً من سلوك بشري وجعله نظرية يسير عليها البشر، بعيداً عن الفضيلة والأخلاق.