د.محمد بن عبد العزيز الفيصل
شغلت العربية حيزًا كبيرًا من اهتمامي، فانصرفت منذ بداياتي الأولى إلى القراءة والبحث في علومها؛ فقد زرع فينا سيدي الوالد أ.د.عبدالعزيز بن محمد الفيصل، حب لغة القرآن والارتباط بمعارفها؛ فمنذ وعيت على هذه الدنيا ومكتبته وملحقاتها تشغل جزءًا من المنزل الذي عشنا فيه مراحلنا العمرية الأولى في حي العليا بمدينة الرياض، وكانت المكتبة تنافسنا في كل شيء! لتستأثر بجل أوقات الوالد الذي يقضي كلَّ يومه فيها فمن ساعات الصباح الأولى وحتى منتصف الليل وهو لا يبرحها، ولم يكن الدخول إليها سهلاً فقد رسخ في أذهاننا أنا وإخوتي هيبة خاصة للمكتبة والكتاب! فلا يمكن أن ندلف إليها إلا بإذن، أما استعارة الكتب منها فتخضع لنظام صارم، وهذا ما جعل المكتبة تحتفظ بأغلب الكتب الموجودة فيها، فلا يمكن أن يتحرك كتاب من موضعه إلا وفق آلية محددة، وقد استمرت هذه الصرامة في التعامل مع المكتبة وفي الحفاظ على الكتاب حتى بعد تخرجنا من الجامعة ونيلنا الدرجات العليا، فلا يمكن أن ندخل المكتبة أو نستعير منها أي كتاب إلا وفق نظام المكتبة، وبعد هذه السنين أحمد لوالدي هذا الصنيع الذي بان أثره في الحفاظ على الكتب والوثائق والمخطوطات، التي حافظنا على جودتها حتى بعد انتقالنا من حي العليا إلى حي الملك فهد في منتصف العقد الثاني من القرن الخامس عشر، فكنا ننقل الكتب على دفعات، ولا نتكل على أحد في نقلها من مكان إلى آخر كما هو الحال مع بعض الأشياء التي لا يمكن الاستغناء عنها عند تغيير المسكن.
لقد زرع فينا والدي أنا وإخوتي حب العلم و به، ولعل ذلك سبب ارتباطنا الوثيق بالبحث العلمي، واتصالنا الكبير به، أما أنا فقد شرفت أن أكون عونًا لوالدي خلال رحلاته العلمية الطويلة في خدمة التراث، فمشروعه العظيم في جمع وتحقيق شعر القبائل العربية لم أجد له مثيلاً حتى على مستوى المؤسسات! حيث يبرز انفراد الوالد في تحديد المواضع وربط الأدب بالجغرافيا والتاريخ؛ فجزء كبير من كتب التراث حققها علماء من مصر ومن بلاد الشام، ومستشرقون من البلاد الأوروبية وهؤلاء لا علم لهم ببلاد العرب، ولا بطبيعتها ولم يسبق لهم أن زاروا هذه الأماكن! وحتى من يعيش منهم في المملكة لم يقف على هذه المواقع فهو يتحدث عن خيالات في ذهنه فقط! ومن هنا يحدث الخلط واللبس في تعيين المواضع في الشعر العربي، وفي تحديد مساكن القبائل العربية ومسارات ارتحالها.
إن فهم التراث يحتاج إلى سعة أفق، ورؤية متزنة، وصبر على الارتحال وتتبع الأثر، وإدراك عميق لطبيعة القبائل وطريقة ارتحالها، وهذا لا يتأتى إلا من خلال تطويع النفس على الزيارات الميدانية، والعناية بالتاريخ والأنساب، وقد شرفت بصحبة والدي منذ أن كنت في العقد الأول من عمري، فكنت شاهدًا على جهوده الكبيرة التي قدمها في خدمة الأدب والتراث وأذكر منها شرح المعلقات الذي أمضى في إعداد مادته عقدًا كاملاً، ليعيّن جميع المواضع الواردة في المعلقات بدقة وعبر دراسات علمية وميدانية حازمة.
أكتب هذه الأسطر وتغمرني من كل جانب أفضال والدي علي منذ الساعة الأولى التي التحقت فيها بمقاعد الدراسة وحتى اليوم الذي صدر فيه قرار المجلس العلمي بترقيتي لدرجة أستاذ (بروفيسور)؛ فلوالدي الفضل بعد الله في كل ما حققته، وحققه كل أفراد أسرتنا، فخمسة من الإخوة والأخوات يحملون شهادة الدكتوراه، اثنان منهم طبيبان..
أسأل الله العلي القدير أن يحفظ سيدي الوالد وأن يجزيه خير الجزاء نظير ما قدمه من جهود مباركة في خدمة التراث العربي وتحقيقه.