د.عبدالإله موسى آل سوداء
عَطْفًا على ما ذَكرتُهُ في المقال السابق عن اعتراف الأديب إبراهيم المازني (توفي 1949ه) بغياب عاطفة الحب، وقيمةِ الاحترام لأخيه الأكبر، يُرصَدُ أنّ المازني كان مُخلصًا في تعريته لنفسه والإنصافِ منها؛ فهو لم يَستغلّ شَجاعتَه البَـوْحِـيّة في تشويه الآخر مع تَلميع الذات، بل عاد على نفسه بالزِّراية واتّهمَهَا باحتمالية أنها تعاني من البلادة والنقص، وهذا غايةُ الإنصاف، وهو يُذكِّرنا بالقصائد الـمُـنْصِفات التي عُرفَت في الجاهلية، غيْـرَ أنها هنا إنصافٌ في تعرية النفس وتعرية الآخر على السواء.
ولعل المازني في بَوحِه هذا مُـتَّـبِعٌ لسبيل جان جاك روسو (توفي 1778م) الذي قال في اعترافاته: «قد رَوَيْتُ في كتابي الطيَّبَ والخبيث على السواء، بصراحة، فلم أمح أي رديء، ولا انتحلت زوراً أي طِيب، وإذا كنت قد استخدمت بعض التزويق الفارغ -بين وقت وآخر- فما ذلك إلا لأملأ فراغاً نشأ عن نقص في الذاكرة.
لقد صورتُ نفسي على حقيقتها: في ضَعَتِها وزرايتها، وفي صلاحها وحصافة عقلها؛ تبعاً للحال التي كنت فيها. لقد كشفتُ عن أعمق أغوار نفسي». وهذا الميثاق الذي يُقَرِّرُه روسو؛ مُـضَمَّنٌ في الميثاق السيري المعروف الذي وضعه الناقد الفرنسي فيليب لوجون، إذْ أشارَ لوجون في ميثاقه إلى وجود اتفاقٍ ضِمني بين الكاتب السيري والقارئ بأنْ لا يَذكرَ الكاتبُ في سيرته إلا الوقائع التي حَدَثَت له، ولكنّ روسو يُضيفُ ميثاقًا داخل الميثاق بتعهده بأنْ يُقَدِّمَ نفسَه على حقيقتها في ضَعَتِها وصلاحِها، وقد كان ذلك في اعترافاته المشهورة.
غير أنّ هذا الأمرَ - على ما أسْلَفْتُهُ في المقال السابق - يَظَلُّ شائكًا في ثقافتنا العربية والإسلامية، وقد أشرتُ إلى عدة موانع تجعل معظم السير الذاتية الأدبية إنْ لم يكن جميعها هي سِـيَـرٌ (للجانب المضيء) في شخصية الكاتب، بل إنّ كتابنا السيريـين حتى لو سَرَدوا معاناة معينة أو لحظات ضعفٍ مروا بها؛ فإن سَرْدَهم ينتهي لصالحهم أيْ أنه يَنتهي إلى لحظةِ إضاءةٍ وانتصار! وقَـلّما تقرأ سيرةً يَحكي كاتُبها – مثلاً - عن انهزاماته التي لم يَعقُبْها انتصار، أو انكساراته التي لم يَـتْـلُـها انطلاق، أو معاناته من أخلاقٍ مرذولة، أو سلوكاتٍ مريضة لم يَستطع مقاومتها، والفَـوزَ بتجاوزها، وإن اضطُرَّ أحَدُهُم إلى البوحِ بما لا يُتاح؛ فإنه يَلجأ إلى كتابة الرواية «السِّيْر ذاتية» وهي جِنسٌ سَردي لا ميثاق فيه، أيْ تَختلط فيه الحقيقةُ بالخيال، ويكون الساردُ في مأمنٍ من إدانة المُـشَغِّبين والخصوم.
ولعل البيئة الثقافية والاجتماعية لروسو سَهَّلَت له وضْعَ ميثاقه الخاص، فالسلوك الاعترافي موجود في الثقافة المسيحية على ما يُعرَف بـ(كُرسيّ الاعتراف) وهو نَوعٌ من التطهر والتوبة للـمُـعْـتَـرِف، وإذنْ فلا تَثريبَ على روسو في جرأته الاعترافية، فضلاً عن أن العلاقات الاجتماعية يَختلف واقعُها في الثقافة الغربية عن واقعِها في الثقافة العربية؛ حيث يكون (ضَغْطُ الأقران peer pressur) في المجتمع العربي أنكى وأشد، ولنْ يَفتَحَ الكاتبُ السيريُّ العربي على نفسه أبواب الرياح العاتية باختياره، إذ السلامةُ مَطلب.
ورغم وجود مسوغاتٍ قوية لمسلك الكُتَّاب السيريين العرب في إيثارهم للسلامة، والالتزام بمبدأ (ستر عيوب النفس ومثالبها)؛ فإنّه من اللافت أنّ السير الذاتية الأدبية التي تَكشف شيئاً من هذا الستار، تُحقق رواجًا مرتفعا، ونسبةَ مبيعاتٍ عالية، وهذا مَلحوظٌ جَـليٌّ عبْر معرفتنا لردود أفعال القراء الذين يُنوّهون دومًا بأي سيرةٍ ذاتيةٍ تشير إلى اعترافٍ مثير. ولدينا في التآليف العربية من الأمثلة «طوق الحمامة» لابن حزم الظاهري (توفي 456هـ) الذي تَضَمّن اعترافاً بحبه لإحدى جواريه، ووصْفِ مشاعره تجاهها بدقة، وهو اعترافٌ مِـمَّن لا يُتَوقَّعُ منه؛ إذْ كان عالمَ شريعةٍ وفقيهًا، وكذلك اعترافات لويس عوض (توفي 1990م) في «أوراق العمر» التي راجَتْ في وقتها، وذاع صيتُها، ذلك أنه كَشَفَ أمورًا حساسة عن أسرته الصغيرة والممتدة، حتى إن أخاه رمسيس قال: « أعتقد أن لويس عوض لم يَكن موفقاً في التشهير بعائلته في كتابه (أوراق العمر)، فهناك في كل عائلة أشياء سلبية أضعاف ما هو موجود في (أوراق العمر)، وأنا مازلت أحمل العرفان بالجميل لشقيقي الأكبر لويس عوض لأنه تولى الإنفاق على تعليمي بالجامعة... وألوم لويس عوض انتقادَه لكُتبي التي وصلت إلى خمسة عشر كتاباً قبل رحيله، إذْ لم يكن موفقاً في تقدير قيمتي العلمية، ولم يكن يتصور أن عدد كتبي سوف يفوق إنتاجه بكثير».
وهنا يُرْصَدُ بوضوح أثَرُ الاعترافات في واقعنا العربي، حيث تَـتْـرُكُ جروحًا غائرة لا يُداويها تَـفَـهُّـمُ الآخَر لطبيعة (ميثاق الميثاق) أو (ميثاق روسو)، ذلك الميثاق الذي يُقَدِّمُ النفسَ للقراء كما هي بـ(ضَعَــتِها وصَلاحِها)، وقد كان أنْ صُودِرَتْ بعضُ الأجزاء من سيرة لويس عوض بعد وفاته جَـرَّاءَ ما فيها من جُرأة البَّوْح الذي قد يَـحلو للبعض أن يسميه بـ(الفضْح).
وعَوْدًا على بَدء؛ فالثقافةُ العربيةُ الإسلامية لها دورٌ كبير في تقييد العمل بمبدأ (ميثاق الميثاق) أو (ميثاق روسو)، ويَصحُّ لنا حينها أنْ نصف السير الذاتية العربية بأنها سيرٌ ذاتية تُبْـرِزُ الجانبَ المضيء في حياة الشخص، مع حديثٍ عن أثر الجانب المضيء لدى الآخرين في حياة الكاتب السيري، وهذا التوصيف على الأغلب، وليس تَعميمًا. كما يَصحُّ أنْ يُقال: «كتابةُ قصة الحياة؛ قِصةٌ أخرى، وروايةُ السيرة الذاتية؛ سيرةٌ أخرى» أيْ أنّ القصة أو السيرة ليست هي الكاتب بالضرورة، بل هي ما أراد الكاتبُ أنْ تَظهر في سيرته.