غالية بنت محمد عقاب المطيري
دخل المدينة والشمسُ تهمّ بالرحيل عن الأفق الواسع، تاركةً خلفها خيوطًا باهتةً رمادية، أخذت تزحف على نورها وتحوّله إلى بهوتٍ ساكن. انسحبت الشمس بهدوء، وكأنها تهمس للأرض وساكنيها:
«ما هي إلا لحظات... وسيتكاثر الظلام، وسيمضي الناس في طرقاتهم بلا نورٍ يهتدون به».
جلس على مقعد سيارته يتململ، وزفر بحدة وهو يرمق الإشارة الضوئية التي تأبى أن تنطفئ. دقائق تمرّ ببطء، وقلق يتصاعد في صدره خشية التأخر عن الإفطار.. وفجأة، باغته ألمٌ غريب في صدره… لا يدري له سببًا، لكنه كان كافيًا ليغلق عينيه… ويرحل.
تحرّرت الإشارة، فانطلقت السيارات مسرعة، أما هو… فلم يتحرك. لم تزعجه الأبواق المتعاقبة، فالجميع في عجلة، يركضون نحو لحظة الغروب، حيث الموائد تنتظر والأذان على وشك أن يرفع.
لكن الحقيقة الكبرى تتسلل من بين فوضى العجلة:
«خُلِقَ الإنسانُ من عَجَلٍ. سأريكم آياتي فلا تستعجلون».
في المقعد الخلفي، خرج أحد السائقين غاضبًا، يتوعد بالشتائم، وما إن فتح باب السيارة حتى تراجع فزعًا، وصرخ:
«الرجل لا يتحرك!»
تجمهر الناس، وعمّت الدهشة، وساد الصمت بدل الصياح، حتى صرخ أحدهم:
«اتصلوا بالإسعاف!».
وصلت سيارة الإسعاف في دقائق، وحاول المسعفون إنعاشه… لكنهم أخفقوا.
تم إعلان الوفاة.
إلا أن هذه النهاية لم تكن إلا ومضة في خياله.
كان صاحب السيارة حيًّا، لكنه تخيّل المشهد بكامله بعد أن أحسّ بتلك اللسعة الغريبة في صدره. تخيّل الموت… تخيّل فوات كل شيء.
«يا رب… أرجوك، أمهلني!
لم أنهِ أحلامي، ولم أصلّ التراويح، ولم أبدأ ختمتي… هناك قلوب كنت أنوي أن أعتذر لها، ومواقف كنت أظنها عظيمة، فإذا بها لا شيء!»
فتح عينيه فجأة. كانت الأصوات ذاتها، الإشارات ذاتها، الشارع ذاته… لكنه ما زال على قيد الحياة.
نظر حوله، والتقط أنفاسه كمن خرج من قبر، وابتسم. لم يغضب من السائق الذي شتمه، بل لوّح له فرحًا كما يفعل الأطفال عند حصولهم على لعبتهم المفضّلة.
قاد سيارته بهدوء، وقلبه يلهج بالحمد… وعهد جديد ينبض بداخله:
«لن أنسى ساعة رحيلي مرة أخرى».