عبدالله العولقي
ما هي مُتلازمة أدلر؟ هي مصطلحٌ في علم النفسِ يُشيرُ إلى مفهوم (عقدة النقص) حسب الدراساتِ والآراءِ التي قدّمها عالمُ النفسِ الشهير ألفريد أدلر(1870م-1937م)، حيث يرى العالمُ النمساويُّ أنّ الدافعَ النفسي الذي يُحرّكُ معظمَ البشر في حياتهم هو السعيُ وراءَ التفوق وتحقيق الذات (Self Actualization)، لكنْ عندما ينشأ الإنسانُ في بيئةٍ اجتماعيةٍ متدنيةٍ أو يعاني من عاهةٍ خُلقية أو بدنية تحولُ بينه وبين هذا التفوق فإنه قدْ يُعاني من أعراضٍ نفسيةٍ نُسمّيها متلازمة عقدة النقص أو الشعور بالدونية (Inferiority Complex)، حيث تتسبّب هذه المشاعر عند المُصاب بها في معاناة نفسية واجتماعيّة، فهل كان الشاعر الحُطيئة يُعاني من تبعات هذا المرض النفسي؟ ربّما يكون الأمر كذلك، حيث تشير الدراسات النفسية إلى أنّ نتيجة هذه المتلازمة مرتبطة بمشاعر الطفولة السلبية، أي بحالات التنمر المبكّر على هذه الحالة نتيجةً لأوضاعِها الاجتماعية المتدنيّة أو بسبب عيوبٍ في ملامحها الخلقية، وتشير مصادر التراث العربي إلى مجموعة من النقائص (الاجتماعية والخلقية) التي كانت تُلاحق الحطيئة منذ بداية نشأته، منها أنه كان مجهولُ النسب، وأنه كان يُعيّر بوالدته التي كانت في عِداد الإماء، بالإضافة إلى أنّ سبب لقبه الحُطيئة جاء (بالتصغير) من الانحطاط في قومه، وقيل لأنه كان قصيراً دميماً منبوذاً من المجتمع، فهل هذه الآراء المتنوعة في كتب التراث حول حقيقة حالة الشاعر قدْ جاءتْ لنا بتفسير يتوافقُ مع تعريف هذا المرض النفسي؟! بمعنى هل كانتْ هجائيّات الحُطيئة الفوضويّة مُعادِلاً نفسياً لمتلازمة أدلر؟!
تذكر كتب الأدب والتراث عن سيرته الذاتية أنه جرول بن أوس بن مالك العبسي، يُكنى بأبي مُليكه (توفي عام 674م)، وهو شاعرٌ مخضرمٌ أدركَ الجاهلية والإسلام، وقد عُرف بسلاطة لسانه وهجاءاته المقذعة وحقده على المجتمع، فلمْ يتركْ أحداً في زمانه من ذوي المال والنفوذ إلا هجاه، ولا يُسْكته إلا بريقُ المال، ولعلّ أشهر الشخصيات المرموقة التي هجاها سيد بني تميم الزِّبِرْقان بن بدر، والذي كان وجيهاً بين العرب في الجاهلية وفي الإسلام:
دع المكارمَ لا ترحلْ لبُغْيتِها
واقعدْ فإنك أنت الطاعمُ الكاسي
فلماذا أمعن الحطيئة في هجاء الزبرقان تحديداً وهو من فضلاء العرب وكرمائهم وأخيارهم؟! فحتى نفهم الأمر بصورةٍ أوضح علينا أنْ نبحث عنْ شخصية الزبرقان؟ إنه شيخ قبيلة بني تميم في زمنه، وقد سُمّيَ الزبرقان بهذا الاسم نظراً لجماله وحسنه، فالزِّبِرْقان اسمٌ من أسماءِ القمر، فكان يقالُ له قمرُ نجدٍ لشدةِ جماله وبهائه، وكان من الذين يدخلون مكة مُلثّمِين لئلا يفتنوا النساء!، وهنا نعود إلى صفات مرضى عقدة النقص الذين يتّسمون بكراهيتهم الشديدة للمتميّزين عنهم وحقْدهم عليهم، وإذا تأملنا شخصية الزبرقان بن بدر سنجدُها تتمايز بالتفوق جملة وتفصيلاً على شخصيّة الحطيئة عبر ثنائياتٍ متضادةٍ تماماً: الجمال/القبح، الكرم/البخل، علو النسب/قلة النسب، الوجاهة/الدناءة، الشجاعة/الجبن وهكذا،، فهلْ كان تميّزُ الزِّبْرِقان هو السببُ الخفيُّ وراءَ إمعانِ الحُطيئة في هجائه بغض النظر عن ظاهر السرديّات المرويّة في كتب التراث؟
وإذا تحدثنا عن مشاعر عُقدة النقص عند المُصابين بها سنجدُها تسير في اتجاهين، الاتجاه الأول: مشاعرٌ اجتماعيّة نحو الخارج، حيث يتّسمُ صاحبُها بكراهيةِ المتميّزين عنْه والحقدِ عليهم دونَ إبداءِ الأسباب أحياناً، وفي حالة الحُطيئة سنجدُه هجّاء عنيفاً، لمْ يسلمْ من لسانه حتى أبيه وأمه! فمشاعرُه تجاه الأمومة تحديداً يكتنزُها الحقدُ والضغينة وبتناقضيّة غريبة مع الفطرة والغريزة! ومهما حاولت السرديات الروائية في كتب التراث أنْ تُبرّر سلوكَ الحُطيئة وشتْمه لأمّهِ بخطابهِ المُقذع فإنّ ذلك ليؤكد عواملَ المرض النفسي عند الحطيئة:
حياتُك ما علمتُ حياةَ سُوءٍ
وموتُك قد يسرُّ الصالحينا
أما الاتجاهُ الثاني فهي المشاعرُ النفسيّة نحو الداخل، فكيف كان يرى الحُطيئةُ نفسَه؟، لقدْ بلغَ به المرضُ التلازمي درجةً مُرْعبةً إلى حدِّ كراهيته لنفسه وحقده عليها حتى وصلَ به الحالُ إلى هجائها وشتمها:
أبتْ شفتايَ اليومَ ألا تكلّما
بسوءٍ فلا أدري لمنْ أنا قائلُه
أرى ليَ وجْهاً قبّح الله خلْقَه
فَقُبّحَ من وجْهٍ وقُبِّحَ حاملُه
لقد كان الهجاءُ هو المتنفّس النفسي الوحيد للشاعر بأنْ يُعّبر عمّا تكتنزه نفسُه من آفات مرض الحقد والمتلازمة، ومن الجدير بالقول أنّ المُصابين بهذا المرض النفسي (عقدة النقص) على نوعين، النوع الأول يستسلمُ لتبعاته، فيظلُّ قانعاً بحالهِ على هامشِ مجتمعه دون أي حراكٍ ذاتي نحو التغيير وهؤلاء هم الأكثريّة، والنوع الثاني يهتمُّ بتعويض ذلك النقص، وهذا هو الجانبُ المضيءُ في تبعات هذه المتلازمة، حيث يسعى بعضُهم إلى تطويرِ مهاراتِه وقدراتِه كتعويضٍ إيجابيٍ لهذا النقص بتحقيق الذات والتفوق في جوانب أخرى كما يرى صاحب النظرية الفريد أدلر، ومن هؤلاء بلا شكٍ شاعرُنا الكبير الحُطيئة، فالإبداعيّة الشاعريّة المتميزة عند أبي مُليكة تضعُه في قمة الشعراء المخضرمين، وهذا يكادُ يتفقُ عليه معظمُ النقاد الذين تعرضوا لأدبه وشعره، يقول أبو عمرو بن العلاء لمْ تقل العربُ بيتاً أصدق ولا أروع من بيت الحُطيئة:
منْ يفعلِ الخير لا يعدمْ جوازيه
لا يذهبُ العُرْفُ بين اللهِ والناس
وحدُيثنا اليوم تحديداً عن حسّهِ الروائيِ البديع وفنه القصصي الخيالي داخل شعره والذي يستحق الالتفات إليه والإشادة به، فنجدُه مثلاً يبتكرُ القصة الروائية الخيالية وشخصيّاتها ومكانها وتفصيلها ضمن مشاهد مُكثّفة ومختزلةٍ بدقةٍ فريدة، حيث تتضمن تلك الرواية الشعريّة خاصيّة السيناريو السينمائي المُبتكر والحوارات المتقنة بين الشخصيات وتزيينها بصورٍ من المشاهد التمثيلية بكل براعةٍ وامتياز، وهذه سمةٌ لا يحظى بها سوى الشعراء الكبار، حيث يستندُ في تقنيته الفنية إلى التقسيم التقليدي للرواية الكلاسيكية من البداية إلى العقدة ثم الحل أو النهاية، ولدينا الآن قصيدة قصيرة تعتبرُ من أهمّ إنتاج الحُطيئة الشعري، تقع في 14 بيتاً من البحر الطويل، حيث تدورُ فكرتُها على امتداح سمةٍ من سمات الثقافة العربية وهي الكرم، وهذا من تناقض شخصيّة الحطيئة التي كانت بخيلةً جشعة كما تذكر بعض كتب الأدب، وربّما جاء امتداحُه للكرم لأنه كان يحبُّ هذه الخصلة في ممدوحيه الذين يُغدقون عليه المال ويُطفئون به نيرانَ جشعه، فكرُمهم باب رزقه ومعيشته، ففي هذه القصيدة القصيرة يمكننا القول أننا نستطيع تفصيل أبياتها إلى أربعة مشاهد سينمائية أبدع الشاعرُ في سرديّتها وتقديمها للقارئ بصورةٍ تتسمُ بالإيجاز والتكثيف الإبداعي، حيث يبدأ المشهدُ الأول من الأبيات 1-3 ببطل الرواية، وهو رجلٌ عربيٌ بدويٌ أصيلٌ يقيمُ في بيداء مُوحشةٍ بالقرب من مصدر ماء، ومعه أسرته التي تتكون من زوجته العجوز وأبنائه الثلاثة وقد أضرّ بهم الجوع وأضناهم حتى عصبوا بطونهم من أوجاعه:
وَطاوي ثَلاثٍ عاصِبِ البَطنِ مُرمِلٍ
بِبيداء لَم يَعرِف بِها ساكِنٌ رَسما
أَخي جَفوَةٍ فيهِ مِنَ الإِنسِ وَحشَةٌ
يَرى البُؤسَ فيها مِن شَراسَتِهِ نُعمى
وَأَفرَدَ في شِعبٍ عَجُوزاً إِزائَها
ثَلاثَةُ أَشباحٍ تَخالُهُمُ بَهما
فنلاحظ هنا أن الشاعر لمْ يستهلّ قصيدته بمقدمةٍ تفيضُ بالشرح، بل بدأ مباشرة بوصف حال بطل القصة وأسرته الجائعة، وهنا يرتفع معدل التعاطف مع ظروف البطل عند القارئ بصورة سريعة جداً، فينتقل للمرحلة الثانية من سردية الرواية وهي صدمة العقدة وذلك في المشهد الثاني من الأبيات 4-7 عندما يُقبل الضيف وهم في تلك الحالة المزرية، ذلك الزائر الذي لا بدّ من إكرامه حسب القانون الاجتماعي وإلا ستحصلُ الخيبةُ والذم للرجل أمام قبيلته! فيتصاعدُ الحدث إلى ذروته داخل القصيدة ويصل انفعال البطل إلى مرحلة متقدمة عندما يعجز عن إيجاد الحل لهذه المعضلة (العقدة)، فيبرزُ ابنُه بكلّ شجاعةٍ ويقدّمُ نفسَه فداءً بأنْ يذبحَه أبوه ويقدّمه وجبةً للضيف:
رَأى شَبَحاً وَسطَ الظَلامِ فَراعَهُ
فَلَمّا بَدا ضَيفاً تَسَوَّرَ وَاِهتَمّا
وَقالَ اِبنُهُ لَمّا رَآهُ بِحَيرَةٍ
أَيا أَبَتِ اِذبَحني وَيَسِّر لَهُ طُعما
وَلا تَعتَذِر بِالعُدمِ عَلَّ الَّذي طَرا
يَظُنُّ لَنا مالاً فَيوسِعُنا ذَمّا
فَرَوّى قَليلاً ثُمَّ أَجحَمَ بُرهَةً
وَإِن هُوَ لَم يَذبَح فَتاهُ فَقَد هَمّا
ليبتدأ بعدها المشهد الثالث من الأبيات 8-11 عندما يأتي الإنقاذُ الإلهيُّ لهذا الموقف الصعب من عند الربّ سبحانه وتعالى، فيأتي سربٌ منتظم من الضباء الوحش لتشربَ من مصدر الماء، فيتهللّ وجهُ البطل (تنحلُّ العقدة) ويستلّ سهماً من كنانته ويصوّبه باحترافيّة الصياد الماهر إلى إحداهنّ السمان فيذبحها للضيف:
فَبَينا هُما عَنَّت عَلى البُعدِ عانَةٌ
قَدِ اِنتَظَمَت مِن خَلفِ مِسحَلِها نَظما
عِطاشاً تُريدُ الماءَ فَاِنسابَ نَحوَها
عَلى أَنَّهُ مِنها إِلى دَمِها أَظما
فَأَمْهَلَها حَتّى تَرَوَّت عِطاشُها
فَأَرسَلَ فيها مِن كِنانَتِهِ سَهما
فَخَرَّت نَحوصٌ ذاتُ جَحشٍ سَمينَةٌ
قَدِ اِكتَنَزَت لَحماً وَقَد طُبِّقَت شَحما
ليأتي المشهد الأخير أو الخاتمة السعيدة وهي المرحلة الثالثة والأخيرة من السرديّة الروائيّة (الأبيات من 12-14) بمشهدِ الفرحِ وملامح البشرى التي تعلو وجوه جميع أفراد الأسرة لأنهم أقروا ضيفهم وأحسنوا إكرامه:
فَيا بِشرَهُ إِذ جَرَّها نَحوَ قَومِهِ
وَيا بِشرَهُم لَمّا رَأَوا كَلمَها يَدمى
فَباتَوا كِراماً قَد قَضوا حَقَّ ضَيفِهِم
فَلَم يَغرِموا غُرماً وَقَد غَنِموا غُنما
وَباتَ أَبوهُم مِن بَشاشَتِهِ أَباً
لِضَيفِهِمُ وَالأُمُّ مِن بِشرِها أُمّا
وخاتمة القول .. لقد أبدعَ الشاعرُ الحطيئةُ في استعمالِ تقنية الحركة والسكون في مسار القصيدة العام وقدرة النص على خلق انفعال نفسي موازٍ عند المتلقي، حيث تبدأ القصيدة بالسكون التام للمشهد الأول مع حركة خفيفة لتأوّهات الجوع ليرتفع مستوى الحركة أكثر مع قدوم الضيف ، وهنا نجد أن مستوى انفعال المتلقي يزداد أيضاً مع ارتفاع الحركة، فيتصاعد معدل الحركة أكثر مع الصراع النفسي داخل الأسرة حول كيفية التصرف مع الموقف!!، ليصل إلى مدى أوسع مع اقتراح الابن التضحية بنفسه مقابل الخروج من الموقف المحرج، وبهذا نجد أنَ النص الشعري يخلقُ بداخله خطاً متصاعداً من الحركة يتزامنُ مع خطٍ انفعاليٍ آخر ينشأ في نفس المتلقي في علاقةٍ ثنائيةٍ مُطردة، وبالتالي فهناك خطان يسيران باتجاهين متوازيين، أي أنّ تصاعد معدل الحركة داخل النص يقابله زيادة انفعال نفسي عند المتلقي ، ليأتي المشهدُ الأخيرُ بتباطؤ معدل الحركة بصورةٍ متسارعةٍ في مشاهد السرور التي تعتلي وجوه الأسرة بعد انحلال العقدة يقابله هدوءٌ انشراحيٌّ في ذات المتلقي مع نهاية الحكاية السعيدة، وهنا تأتي العبقرية الشعرية عندما يختزل الحطيئة كلّ الرسوم البيانية لهذه المعادلة الأدبية في 14 بيتاً فقط!