د. فهد بن عبدالله الخلف
أهداني الأستاذ الدكتور إبراهيم الحندود كتابه الجديد الذي صدر هذا العام الميلاديّ (2025م)، وهو كتاب علميّ حديث الصدور عنوانه (الجملة في النحو العربيّ: أقسامها، ومحالّها الإعرابيّة)، وهو ينتمي إلى حقل الدراسات النحويّة، وبخاصّةٍ دراسة الجمل من نواحٍ متعدّدة كالتقسيمات والإعراب وما يتّصل بها من قضايا، وقد صدر هذا الكتاب عن دار دان للنشر والتوزيع في القاهرة، وهو يقع في اثنتين وثلاثين ومئة صفحة من القطع المتوسّط.
والسبب الذي دعا المؤلّف إلى تأليف هذا الكتاب قوله: «إذ نقرأ في كتبهم [أي: النحويّين] أنّ هذه الجملة، أو هذه الجمل لها محلّ من الإعراب، أو أنْ(1) ليس لها محلّ من ذلك دونما إشارة إلى وجود خلاف فيها، وكأنّ هذه الجمل متّفق على إعرابها هذا الإعراب، وإن جاءت إشارات مبعثرة في بعض كتبهم - وفي صفحات الحواشي فيما بعد - عن وجود خلاف في مسألة أو مسألتين فإنّنا لا نجد ما يشفي غليل الباحث من حيث حصر تلك المسائل، والوقوف عندها بالدراسة» (الجملة في النحو العربيّ، ص7).
والكتاب استُهلّ بمقدّمة ثمّ بتمهيد ناقش فيه قضايا الجملة، وتقسيماتها، وبحث الفرق بين الجملة والكلام، وتقسيم الجملة، وانقسام الجملة إلى صغرى وكبرى.
ثم افتتح المبحث الأوّل بالجمل التي لا محلّ لها من الإعراب، وهي عنده تسع جمل: الجملة الابتدائيّة، والجملة المستأنفة، وجملة صلة الموصول الاسميّ والحرفيّ، والجملة المعترضة، وجملة جواب القسم، والجملة التفسيريّة، وجملة الشرط غير الظرفيّ، والجملة الواقعة جوابًا لشرط غير جازم مطلقًا، الجملة التابعة لما لا موضع له من الإعراب.
ثمّ انتقل إلى المبحث الثاني الذي عنونه بالجمل التي لها محلّ من الإعراب، وهي عنده سبع جمل: الجملة الواقعة خبرًا لمبتدأ في الأصل أو في الحال، والجملة الحالية، والجملة المحكيّة بالقول، والجملة المضاف إليها، والجملة التي علّق عنها العامل، والجملة التابعة، والجملة الواقعة جوابًا لأداة شرط عاملة مقترنة بفاء الجواب أو بإذا الفجائيّة.
ثمّ ختم بالمبحث الثالث الذي عقده للجمل المختلف فيها من حيث الموقع الإعرابيّ، وهي عنده إحدى عشرة جملة: الجملة المعلّقة في نحو (عرفتُ زيدًا أبو مَن هو)، والجملة الواقعة فاعلًاً أو نائبَ فاعل، والجملة الواقعة بعد (مذ ومنذ)، والجملة الواقعة بعد (بينا وبينما)، والجملة الواقعة بعد (إذا) الشرطيّة، والجملة الواقعة في الاستثناء بالفعل، والجملة التفسيريّة، والجملة الواقعة بعد (آية) بمعنى علامة، والجملة الواقعة بعد (ذي) في قولهم: اذهب بذي تسلم، والجملة الواقعة بعد حتّى الابتدائيّة، والجملة الواقعة بعد (لمّا) ثمّ خاتمة، وقائمة المصادر والمراجع، ثم فهرس المحتويات.
والكتاب يعالج موضوعًا واحدًا بكلّ ما يتعلّق به من جزئيات وقضايا، وقد فضّل المؤلِّف الكتابة في موضوع الجملة؛ لقصور كثير من الباحثين في معالجة بعض الخلافات التي تندرج تحته، والمؤلّف في هذا الكتاب يرصد معلوماتٍ تراكميّةً ذاتَ طابَع تأريخيّ من لدن المراديّ (ت749هـ) الذي خصّ الجمل بمؤلّف مستقلّ، ثمّ ابن هشام (ت761هـ) الذي عالج موضوع الجمل في جزء من كتابه مغني اللبيب، ثمّ انتهى بكتابات بعض المحدثين ممّن ألّفوا في الجمل، ومضمون الكتاب بفصوله الثلاثة قد حقّق ما يهدف إليه المؤلّف من تجلية الخلافات في إعراب الجمل، وما تحتها من قضايا نحويّة تخدم اللفظ والمعنى، والمؤلّف قد انتهج نهجًا علميًّا في كتابه، فهو متنوّع المصادر لا ينحاز إلى مدرسة نحويّة دون غيرها، ولا يتعصّب لمصدر قديم أو محدث، وإنّما رائده الحقّ فيما عالجه من قضايا، وهو متّبع للدليل، ومتمسّك بالأصول النحويّة التي تحكم دراسة مثل هذا الموضوع، ويتّضح للقارئ دقّة المؤلّف في فهم نصوص النحويّين ومقولاتهم، وقد تميّز المؤلف بدقّة العزو إلى المصادر التي عاد إليها، وحرص أيضًا على التحقّق في النقل مثل قوله: «قلتُ: الذي وجدتُه في كتاب النكت في تفسير كتاب سيبويه للأعلم مخالف لما نقل عنه... وما نقل عنه إنّما هو قول حكاه عن المبرّد، ولم يقبله» (الجملة في النحو العربيّ، ص47).
وقد راعى المؤلف الترتيب التاريخيّ في تتبعه لأقوال النحويّين في مناقشة المسائل التي درسها، وقد استعان المؤلّف بالشواهد والحجج في ما يرجّحه من آراء مثل: قوله: «وقد أنعمت النظر في هذه المواضع وقارنت بعضها ببعض، وقرأت ما قاله النحويّون فيها فوجدت نفسي مطمئنّة إلى أنّ هذه المواضع تسع» (الجملة في النحو العربيّ، ص28)، وفي قوله: «يذهب بعضهم -وهو الصحيح- إلى الفصل بين الجملتين بداعي أنّ الجملة الابتدائيّة هي التي يبدأ بها الكلام، أمّا المستأنفة فهي التي تأتي في أثناء الكلام ومنقطعة عمّا قبلها انقطاعًا صناعيًّا أي: انقطاعًا إعرابيًّا لا معنويًّا؛ لاستئناف كلام جديد...» (الجملة في النحو العربيّ، ص29)، وفي قوله: «جملة الشرط غير الظرفيّ، وهي كلّ جملة وليت أداة شرط غير ظرفيّة وقد أغفلها النحاة» (الجملة في النحو العربيّ، ص32)، وقوله: «والذي أطمئنّ إليه أن تعرب الجملة بدل اشتمال؛ لأنّه لا يحوج إلى تقدير، إضافة إلى أنّه أوضح من حيث المعنى، وأيسر من حيث الاستعمال» (الجملة في النحو العربيّ، ص50)، وقوله: «والذي أميل إليه أنّ الجملة بعد (مذ) و (منذ) في محلّ جرّ بالإضافة، ومنذ كلمة واحدة مركّبة، وأصلها (من) و (إذ) وهي ظرف مضاف إلى الجملة بعده» (الجملة في النحو العربيّ، ص62)، وفي نحو قوله: «والراجح عندي أنّ الجملة الواقعة بعد (بينا) و (بينما) لا موضع لها من الإعراب؛ لأنّ (ما) في (بينما) قد كفّتها عن الإضافة إلى الجملة بعدها» (الجملة في النحو العربيّ، ص66)، وفي نحو: «والراجح عندي أنّ العامل في (إذا) هو الشرط» (الجملة في النحو العربيّ، ص73)، وقوله: «والذي أميل إليه هو ما ذهب إليه السيرافيّ ومن تبعه من جواز كون الجملة استئنافيّة لا محلّ لها من الإعراب، أو في موضع نصب حالاً على التأويل باسم الفاعل، وكلا الوجهين حسن من حيث المعنى، وعدم مخالفته القواعد النحويّة» (الجملة في النحو العربيّ، ص78).
وقد وُفِّقَ المؤلّف في توظيف الحواشي؛ لتوضيح بعض المسائل النحويّة الواردة في المتن، وهذا جليّ في قوله: «ليس معنى أنّها حرف ابتداء أنّه يجب أن يليها المبتدأ والخبر، بل المعنى أنّها صالحة لذلك يستأنف الكلام بعدها فيقع بعدها جملة اسميّة أو فعليّة...» (الجملة في النحو العربيّ، ص101، الحاشية رقم: 3)، وقوله أيضًا: «التعليق من خواصّ الأفعال اتّفاقًا فلا يجوز في غيرها سواء أكان اسمًا أم حرفًا، لكنّها قد علّقت عن العمل بناء على أنّ عملها قد بطل من حيث اللفظ، وإن كان معتبرًا بحسب المعنى» (الجملة في النحو العربيّ، ص104، الحاشية رقم: 1).
وكانت معالجة المؤلّف لموضوع الجمل في النحو العربيّ شاملة كافية مغنية عن غيرها، ويتميّز المؤلّف بأنّه ليس مقلّدًا فقد اجتهد في مواضع كثيرة من الكتاب نحو: «وقرأت ما قاله النحويّون فيها فوجدت نفسي مطمئنة إلى أنّ هذه المواضع تسعٌ» (الجملة في النحو العربيّ، ص28) ونحو: «والذي أميل إليه هو ما ذهب إليه السيرافيّ، ومن تبعه من جواز كون الجملة استئنافيّة لا محلّ لها من الإعراب، أو في محلّ نصب حالًا على التأويل باسم الفاعل، وكلا الوجهين حسن من حيث المعنى، وعدم مخالفة القواعد النحويّة» (الجملة في النحو العربيّ، ص78)، وقد استفاد المؤلّف من مصادره ومراجعه استفادة مثلى، فقد عاد إلى المصادر النحويّة في غالب القرون التي ألّفت فيها كتب نحويّة لنحويّين متنوّعين في انتماءاتهم مثل: كتاب سيبويه، وشرح السيرافيّ عليه، والمقتضب للمبرّد، والأصول لابن السرّاج، وكتب للزجّاج، والزمخشريّ، وابن مالك، وأبي حيّان، وابن هشام، والسيوطيّ، وما فيه معالجة للجمل كمغني اللبيب، وحواشيه، ورسالة في جمل الإعراب للمراديّ، ولم يغفل الدراسات الحديثة التي اختصّت ببحث الجمل في النحو العربيّ نحو: إعراب الجمل وأشباه الجمل لفخر الدين قباوة، وإعراب النصّ: دراسة في إعراب الجمل التي لا محلّ لها من الإعراب لحسني عبد الجليل يوسف، والجملة الشرطيّة عند النحاة العرب لإبراهيم الشمسان، والجملة العربيّة: دراسة لغويّة نحويّة لمحمّد إبراهيم عبادة، والجملة في الشعر العربيّ لمحمّد حماسة عبد اللطيف، والجملة النحويّة نشأة وتطوّرًا وإعرابًا لفتحي عبد الفتّاح الدجني، والدلالة الزمنيّة في الجملة العربيّة لعليّ جابر المنصوريّ، وفي بناء الجملة العربيّة لمحمّد حماسة عبد اللطيف، ومدخل إلى دراسة الجملة العربيّة لمحمود نحلة.
أمّا لغة المؤلِّف فتتسم بالوضوح والدقّة في تعبيرها عن المقصود والإيجاز في موضع الإيجاز، والإطناب في موضعٍ يُحتاج فيه إلى الإسهاب، والاستعمال الدقيق للمصطلحات النحويّة، وتميّزت لغة المؤلّف بالعلميّة والبعد عن الإنشائيّة، وتميّزت أيضًا بالصحّة اللغويّة من حيث الإملاء والتصريف والنحو والأسلوب.
وقد وُجِدَ في الكتاب بعضُ الملحوظات اليسيرة التي لا يخلو منها جهد بشريّ، ولا تقدح بجودة الكتاب ونفعه، ويمكن تصنيفها على النحو الآتي:
الأوّل: أخطاء الطباعة:
أ- «في تركيب غير مقود لذاته» (الجملة في النحو العربيّ، ص14)، وصوابه مقصود.
ب- «الذي يراه ابن هشام مبتداً» (الجملة في النحو العربيّ، ص18)، وصوابه مبتدأ.
جـ- «{أفلم يهد لهم كم اهلكنا قبلهم...}، و{أو لم يهد لهم كم اهلكنا من قبلهم...}» (الجملة في النحو العربيّ، ص51)، وصوابه بقطع همزة (أهلكنا) في كلتا الآيتين.
د- «ففي الجملة الثانية من التخصيص ما هو بمنزلة الاستثناء» (الجملة في النحو العربيّ، ص74)، صوابه التخصيص.
الثاني: الأخطاء النحويّة:
وغالبها مخالف لما يدّعي كاتب هذه المراجعة أنّه الأولى من الناحية النحويّة، فقد يُتلمّس لبعضها وجه نحويّ جائز.
أ- «والزمخشري ُّ متابعٌ في ذلك أبا عليّ الفارسيِّ» (الجملة في النحو العربيّ، ص19)، لعلّ الصواب الفارسيَّ بالنصب؛ لأنّها بدل أو نعت للمضاف المنصوب (أبا).
ب- «ونسبه الرضيّ لجمهور البصريّين» (الجملة في النحو العربيّ، ص57)، و«ظرفان مضافان لجملة» (الجملة في النحو العربيّ، ص59)، و»نسبه الرضيّ للفرّاء» (الجملة في النحو العربيّ، ص59)، و«ذهب الأكثرون إلى أنّ (إذا) مضافة للجملة التي بعدها» (الجملة في النحو العربيّ، ص67)، و «لا يحتاج لرابط» (الجملة في النحو العربيّ، ص22) لعلّ الأولى تعدية الأفعال (احتاج)، و(نسب)، و(أضاف) وما تصرّف منها بحرف الجرّ (إلى) لا بحرف الجرّ اللام.
ب- «أو تقع بين الجارّ ومجروره نحو: هذا غلام -والله- زيدٍ» (الجملة في النحو العربيّ، ص30، ص31)، لعلّ الصواب أن يقال: أو تقع بين المضاف، والمضاف إليه؛ لأنّ (غلام) خبر، وهو مضاف، و(زيد) مضاف إليه.
جـ-التمثيل لأنِ النافية التي هي من أخوات ما الحجازية بـ»إنْ زيدٌ ليسافرُ أخوه» (الجملة في النحو العربيّ، ص38) فيه نظر؛ لأنّ اللام المزحلقة تدخل في خبر (إنْ) المخفّفة من الثقيلة(2)، وهذا المثال لـ(إنْ) النافية العاملة عمل ليس، وأيضًا قول المؤلّف: «وأمّا إذا كفّ بـ(ما) أو (الألف) وأضيف إلى الجمل فلا يكون إلا للزمان» (الجملة في النحو العربيّ، ص63) كيف يُكفّ بما الكافّة أو الألف ثمّ يضاف؟ الكفّ يقطع العمل، والمضاف إليه عمل فيه المضاف في أحد الأقوال.
د- «فضعّف بأنّ استعمال (ذي) موصولة مختصّ بطيّء» (الجملة في النحو العربيّ، ص98)، صواب كتابة (طيّء) هو (طيِّئ) برسم الهمزة المتطرّفة على الياء؛ لأنّها مسبوقة بكسرة.
الثالث: ملحوظات متفرّقة تتعلّق ببعض الأعراف الأكاديميّة:
أ-لو وحّد ذكر الزمخشريّ بلقبه أو بكنيته (أبو القاسم) لكان أولى؛ لكيلا يظنّ أنّهما اثنان متغايران (الجملة في النحو العربيّ، ص19)
ب- «وصرّح أبو البقاء في إعرابه بأنّ الفاء الداخلة في جواب (إذا) لا تمنع من عمل ما بعدها في (إذا)» (الجملة في النحو العربيّ، ص73 الحاشية:1) أحال المؤلّف إلى كتاب الجنى الداني للمراديّ ص369، ص370، وكثير من كتب أبي البقاء العكبريّ مطبوعٌ متداولٌ.
جـ- «ورأى بعضهم..» ورد في الحاشية رقم: 4، هو الدكتور فخر الدين قباوة.. (الجملة في النحو العربيّ، ص32)، لمَ لمْ يُسمَّ ابتداءً؟ لو قيل: ورأى فخر الدين قباوة لما احتيج إلى الحاشية رقم 4.
وعند قراءتي لهذا الكتاب رأيتُ أنّه كتاب يغني غناءً محمودًا عن كثير من الكتب الحديثة المؤلّفة في الجملة العربيّة مثل: كتاب الجمل وأشباه الجمل لفخر الدين قباوة، ومدخل إلى دراسة الجملة العربيّة لمحمود نحلة، وإعراب الجمل وأشباه الجمل لشوقي المعريّ، والجملة العربيّة تأليفها وأقسامها لفاضل السامرّائيّ، ومقوّمات الجملة العربيّة لعليّ أبو المكارم، وغيرها؛ لأنّه سدّ نقصًا معرفيًا في غالب مضامين تلك الكتب، وذلك بالترجيح وَفق معطيات أصول النحو العربيّ، ويتميّز أيضًا بالإيجاز، والتأصيل المعرفيّ المستمدّ من أمّات المصادر النحويّة الرصينة، وأنّه قُدِّمَ بلغة مناسبة للمتوسطين، والمنتهين من طبقات طلّاب العلم.
**__**__**__**__**__**
الحواشي:
(1) لعلّ صوابها (أنّه ليس..)
(2) انظر مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، عبد الله بن يوسف الأنصاريّ ابن هشام، تحقيق: فخر الدين قباوة، دار اللباب، إسطنبول، تركيا، الطبعة الأولى، 1439هـ/2018م، ص54.
المصدر:
الجملة في النحو العربيّ أقسامها ومحالّها الإعرابيّة، إبراهيم بن صالح الحندود، دار دان، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 2025م.
** **
- جامعة الملك سعود.