رقية نبيل عبيد
قد تكون رواية إيزابيل الليندي بيت الأرواح هي الرواية الأولى منذ زمن طويل التي تجتذبني وتأسرني في فلكها منذ أول صفحتين فحسب!
كيف يكون الكاتب موهوبًا؟ كيف تنضح ملكة الكتابة وترشح من قلمه؟ كيف تشهد له كلماته أمام الملأ والزمن أنه كاتبٌ بحق؟
حينما يحكي عن عصرٍ ما عاش فيه بتدقيق وتفاصيل غير معقولة، يحكي حياة بأيامها ودقائقها وثوانيها، يحكي عن أناس بملابسهم وعاداتهم الدقيقة وروتينهم اليومي الممل، وكل ذلك يكون قد وقع قبل زهاء مائة عام من ولادته!
لكن المذهل في رواية إيزابيل الليندي هذه أنه يبدو وكأن الزمن لا سلطان له عليها! يتحدث البطل عن أمور كانت في الماضي ثم وفجأة عن سؤال لطالما طرحته حفيدته، نصف قرن من الزمان يتقدم ونصف آخر يتقهقر ويذوب في لمحة! كل هذا وسياق القصة يسير أمامًا لا تشوبه شائبة، ولا يُسقط مشهدًا أو يغفل حدثًا.
دعني أسرّ لك أن بيت الأرواح، رواية جميلة فوق كل وصف! جميلة كشروق الشمس في أزهى يوم ربيعي من مخدعها، جميلة كما الحياة وكما هي ولادة طفل صغير وكما هو نموّه وتبرعمه وتقلبه بين جنبات الزمان حتى يذوي في ركن من أركان الحياة رويدًا رويدا.
تحكي الرواية عن استبيان تروبيا الرجل الذي ترافقه مذ كان في العشرينات من عمره وحتى يصير هرمًا في التسعين بصحبة حفيدته الوحيدة، تراقب هذا الشخص من عل، من بعدٍ خفيّ، دون أن يُخفى عليك أشد عيوبه سوءًا وأفضل صفاته حسنًا، تراقب عائلة دل بابيه الكبيرة المترامية والمتمثلة في الصغيرة كلارا التي تشب وتكبر وترتدي الأبيض على الدوام وتتحدث إلى الأرواح والأشباح والموتى بأكثر مما تعير أيا من الأحياء اهتمامها، وبمرور الصفحات تشهد ولادات جديدة، وتعبر على عجالة بأصحابها حتى يصل الأمر آخرًا لحفيدة تروبيا خضراء الشعر ألبا، الشخص الوحيد الذي سيبادله محبة بمحبة، ذاك لأن نزق تروبيا وغضباته وسوء طبعه الذي اشتهر به حال دون أن يحبه مخلوق من الأناسي الكثر الذين أحبهم في أعماقه.
والزمن الذي يمضي دون رحمة، والقصص التي تعلق بأهداب الأيام، والأبطال الذين يكبرون ويتقدمون بهدوء في ممرات أعمارهم، هذه الحكاية التي قرأتها مرارًا ويروق دومًا للأدباء أن يغوصوا بأقلامهم فيها حتى الثمالة الأخيرة، مثلما فعل نجيب محفوظ في الحرافيش، لا بل مثلما فعلها في الثلاثية، وجعلنا نستغرق في حياة كمال منذ كان فتى صغيرًا في العاشرة من عمره يمسك بيد والدته الشابة ويهيم على وجهه في الحارة المصرية وحتى شب وكبر وصار رجلًا كئيبًا بافكار كثيرة تبعثره، يفترش الأرض بجوار سرير أمه ممسكًا باليد المتغضنة العجوز ومنتظرًا بجزع هادئ واستسلام الغريق رحيلها عن الدنيا، هكذا تمامًا ترافق أبطال بيت الأرواح بذات الطريقة وذات الأسلوب السريع الذي يمضي بين الصفحات وذات الإحساس بالزمن الذي يعدو مختطفًا سنوات الأبطال بين يديه!
في كل الروايات التي أخوض عبرها، في كل قراءاتي أتعجل النهاية، أتعجل رؤية مصائر الشخصيات، غير أنني هنا ما رغبت بشيء أكثر من امتداد هاته الكلمات، لا أريد لهم أن يرحلوا، هؤلاء الأناس الذي تعلقتْ بهم روحي، لا أريد للنهاية أن تقترب عجلى ولا للصفحات أن تنفد!
المدهش أنني طوال قراءتي للرواية كنت أقول هذه طريقة الرجال في الكتابة لا النساء، فالكاتبات يستهويهن التوقف عند كل شعور وتحليل كل ذائقة وكل موقف بتأن، غير أن إيزابيل كانت تصف الأحداث بلا اكتراث وكأنها حكّاء يتعجل روي الحكاية، هذه القصة قد وقعت فدونكم مشاهدها ولا داعي للتوقف عند كل فصل طويلًا !تتحدث سريعًا حتى أنني أجدني مضطرة للتريث للعودة وإعادة القراءة حتى لا أشعر أن تفاصيل غاية في الروعة قد فاتتني.
أود أن أصدق أن نصف القصص التي تحكيها إيزابيل عن الإقطاعيين الأثرياء في الماضي ليست حقيقية وماهي إلا سطر آخر من سطور حكاية وهمية تبتدعها مخيلتها الخصبة، لكن لا! كل الدلائل تشي بحقيقيتها، كل الأسرار المحمولة همسًا عبر التاريخ والمنثورة بين كتبه تفضح هذه الحكايات على الملأ، في النهاية ما قيمة فلاحة صغيرة في ريعان الصبا تعيش في فقر مدقع بين أم وجدة لا تكادان تملكان ما يسد جوعهما؟ يتيمة الأب والإخوة، ثم إذا صارت لها الحوادث عند حافة الغابة في نهاية غسق دام من ذا الذي يجرؤ على المواجهة؟! من ذا الذي سيرفع إصبع الاتهام، من ذا الذي سيدافع عن شرفها ويحمي عرضها من السيد المهيب مالك هذه الضيعة بأكملها؟! إن الظلم قاس مرير وثقيل الوطأة على القلب، الظلم يجهض الروح من إنسانيتها، من حقها البسيط في أن تعتاش على هذي الأرض بسلام، من حقها أن تعدّ نفسها واحدة بين الأحياء، لها ما لهم وعليها ما عليهم! استبيان تروبيا كان رجلًا عبقريًا، لكنه سيد فاسد ومالك فظيع لا يرحم ولا يعتدّ بإنسانية فلاحيه!
في الرواية يظهر لك التاريخ العجوز الممل الكئيب، التاريخ الذي يهوى ولادة الأيام الحبلى بالفظائع، بالدمار والقسوة والألم والموت والدم والأشلاء التي تناضل لأجل قضية، حروب ومكائد ومفاسد كُررت عبر القرون كثيرًا جدًا، حتى إنك تتعجب كيف يغفل الناس عنها حتى تقع بينهم من جديد!
بعض الصفحات كان يحكيها استبيان تروبيا بنفسه، وبعضها كان يُحكى فيها عنه، حتى ظننت أن الأمر اختلط على الكاتبة وأنها قررت إبقاء التدوين على ما هو عليه بالرغم من هذا، لكن الأسطر الأخيرة كشفت لي سر هذا التناقض، فهذه الذكريات هي نتاج عمل مشترك بين الجد والحفيدة، بدأت باقتراح منه هو، واستُكملت بمعونة وجهود حفيدته ألبا، وهي صاحبة الكلمات التي افتتحت بها الرواية، هذا السر الصغير البسيط زاد من تقديري للكاتبة وروايتها وزادني محبة وإعجابًا وتعلقًا ببيت الأرواح.
ولو أني نسيت ما كنت أقرأ بين يدي، لظننت أنها مائة عام من العزلة، تحفة الماركيز الخالدة التي طبقت الآفاق شهرة، فالسحر والأرواح الغامضة والجنون الوراثي الذي ينتقل في خلايا الأسرة ويتسلل بين جيناتها، والأجيال التي تسلم القياد إلى التي تليها، والمرء الوحيد الذي يصمد طيلة هذه السنوات كلها وتنتهي به الحكاية في ذروة ذبوله وهرمه، كلها دعائم يقوم عليها بيت الأرواح، كما قد قامت عليهم من قبل قصة الماركيز، الفرق أن التاريخ هنا يحتل حيزًا أعظم بكثير، وأن شخوص الحكاية من الممكن محبتها ومن الصعب بشدة نسيانها.