إعداد - عبدالله عبدالرحمن الخفاجي:
منذ العصور القديمة، كانت المجسمات الفنية جزءًا لا يتجزأ من المشهد الحضري، حيث تلعب دورًا ثقافيًا ورمزيًا يتجاوز الزينة إلى التعبير عن القيم والتاريخ والهوية. ففي روما القديمة وأثينا، وُضعت التماثيل في الساحات العامة لتخليد القادة والأساطير، بينما أصبحت تماثيل باريس ونيويورك اليوم علامات بصرية مميزة تربط الزائر بالمكان وتغذي ذاكرته الجمالية.
ومع تطور الفكر العمراني عالميًا، ازداد الوعي بدور الفن -خاصة المجسمات- في تحسين جودة الحياة، وتحويل المدينة إلى مساحة تفاعلية نابضة بالحياة. وفي هذا السياق، شهدت المملكة العربية السعودية خلال العقد الأخير تحولات ثقافية لافتة، كان من أبرز تجلياتها الحضور المتزايد للمجسمات الفنية في شوارع وميادين مدنها الكبرى.
جاءت هذه النهضة الفنية ثمرة لرؤية طموحة يقودها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء، ضمن مستهدفات رؤية السعودية 2030 التي وضعت الثقافة والفنون ضمن ركائز التنمية المستدامة.
ومن خلال إطلاق مبادرات استراتيجية، دعمت القيادة إنشاء هيئة فنون العمارة والتصميم، وهيئة الفنون البصرية، وإطلاق وزارة الثقافة لعدد من البرامج والمهرجانات، ما أسهم في إعادة صياغة العلاقة بين الفن والمجتمع. وقد أكد سمو ولي العهد في أكثر من مناسبة أن الثقافة ليست ترفًا، بل عنصرٌ أساسيٌ في بناء المجتمعات القوية والمتقدمة.
وقد حرصت وزارة الثقافة على تعزيز حضور الفن في الأماكن العامة عبر مبادرات نوعية، وتعاونت مع الأمانات والهيئات المحلية لجعل المجسمات جزءًا من التخطيط العمراني، مما أدى إلى نقلة نوعية غير مسبوقة في المشهد البصري للمدن السعودية.
ومن المبادرات التي عُنيت بهذا الشأن:
«الرياض آرت»:
يقود مشروع «الرياض آرت» هذا التوجه الطموح، بوصفه أحد أكبر المبادرات الثقافية في المنطقة، ويهدف إلى تحويل العاصمة السعودية إلى معرض فني مفتوح يضم أكثر من 1000 عمل فني في الفضاء العام، تتوزع على الطرقات والحدائق والميادين والمراكز الحيوية.
يتضمن المشروع عدة برامج فنية نوعية، من أبرزها:
* «نور الرياض»: مهرجان عالمي يحتفي بفنون الضوء والوسائط الجديدة، يعرض أعمالًا ضوئية تفاعلية في مختلف أنحاء المدينة.
* «حديقة النحت»: مساحة دائمة تحتضن مجسمات فنية معاصرة لفنانين محليين وعالميين.
* «ملتقى طويق للنحت»: فعالية سنوية مميزة تجمع نحاتين من مختلف دول العالم في تجربة فنية حيّة بالرياض، يعملون خلالها على نحت مجسمات حجرية ضخمة أمام الجمهور. وبعد انتهاء الملتقى، تُعرض هذه الأعمال في شوارع وميادين الرياض، لتبقى شاهدة على التفاعل بين الفنان والمكان.
وقد شهدت النسخ الأخيرة من الملتقى مشاركة نخبة من النحاتين السعوديين والدوليين، مما عزز من التبادل الثقافي ورفع مستوى الذائقة الفنية لدى الزوار والمجتمع المحلي.
جدة: رائدة الفنون في الفضاء العام
تعد مدينة جدة من الرواد في هذا المجال، حيث بدأت تجربة المجسمات فيها منذ السبعينيات بدعم من أمانة المدينة ورجال أعمال مهتمين بالفنون. وتحتضن جدة اليوم واحدة من أكبر مجموعات المجسمات الفنية في الهواء الطلق على مستوى العالم، والتي تنتشر على طول الكورنيش وفي عدد من ميادينها الحيوية.
تتنوع هذه المجسمات بين الأعمال المعاصرة، والأشكال التجريدية، والنصب الرمزية، وقد ساهم في إنجازها فنانون عالميون مثل سيزار، أرمان، وجوان ميرو، إلى جانب فنانين سعوديين أضافوا لمساتهم المستوحاة من التراث والثقافة المحلية.
الخبر: مبادرة مجسم وطن
أما مدينة الخبر، فقد شهدت خلال السنوات الأخيرة اهتمامًا متزايدًا بالمجسمات الفنية في إطار تطوير الواجهة البحرية والمناطق الحضرية المفتوحة. وُضعت العديد من المجسمات المعاصرة في ميادين وممرات الكورنيش، ما حول هذه المساحات إلى معارض فنية مفتوحة تعكس روح المدينة العصرية وتطلعاتها الثقافية.
وقد حرصت الجهات المعنية في المنطقة الشرقية، بالتعاون مع فنانين ومصممين، على أن تحمل هذه الأعمال طابعًا فنيًا يعكس البيئة الساحلية والثقافة الشرقية، ويضيف بعدًا جماليًا يحاكي الطبيعة والهوية المحلية.
كما نجد المجسمات الفنية متواجدة في العديد من المدن والمحافظات وحتى القرى في المملكة منذ سنوات عديدة لكن الاهتمام في الموضوع والموروث والقيمة الفنية بدأ ليتوافق مع المعايير العالمية للفكر والجمال والمواضيع تثبت هذه التجارب أن المجسمات الفنية لم تعد مجرد «قطع تزيينية»، بل أصبحت لغة حضرية تعبّر عن روح المدينة وقيمها، وتربط الإنسان بالبيئة التي يعيش فيها. كما تُعد هذه الأعمال وسيلة فعالة لتحفيز التفاعل المجتمعي، وتحويل الشوارع إلى مساحات للدهشة والتأمل والحوار.
وبفضل الرؤية الحكيمة لسمو ولي العهد، والدعم المؤسسي الكبير من وزارة الثقافة، والجهات البلدية المختلفة، تتجه المملكة بخطى ثابتة نحو دمج الفن في الحياة اليومية، وجعل الفضاء العام مساحة تُعبر عن هوية ثقافية حية ومتجددة، تليق بمكانة السعودية الحديثة على الساحة العالمية.
** **
تويتر: AL_KHAFAJII