منصور بن صالح العُمري
ما الهجرة إلا ميلادٌ ثانٍ، يولد فيه المؤمن من رحم الضيق إلى سعة المقصد، ومن عبودية الخوف إلى سيادة التوكل، ومن ليل الابتلاء إلى فجر التمكين.
النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج من مكة هاربًا، بل خرج منها وهو أعظم من فيها، يحمل في قلبه حبها، وفي عينه نورها، لكنه علم أن الأوطان ليست الأرض فحسب، بل مواضع الاصطفاء الإلهي، وحيث يريدك الله، فهناك خيرك.
غادر مكة لا مُحمّلاً بزاد، بل محمولاً على أجنحة اليقين.
كان معه صفيُّه من صحبه الصديق، لكن كان رفيقهما الأكبر: {إنَّ اللهَ معنَا}.
في الغار، أُحكمت أبواب الأرض، لكن فُتحت أبواب السماء..
وفي تلك اللحظة، لم يكن معهما جيش، ولا مال، ولا سلاح، لكن كان معهما ما لا يُهزم: التسليم الكامل لمشيئة الله.
فيا من أضناك البلاء، وضاقت بك الأزقة، وتكسَّرت أشرعتك في بحر الحاجة..
يا من أوجعك المرض، وأبكاك قهر من تسلط عليك..
تعلَّم من هجرته صلى الله عليه وسلم أن بعض الأبواب لا تُفتح إلا بعد أن تُغلَق كل الأبواب التي تراها وطال طرقك لها،
وبعض النجاحات لا تُولد إلا في ظلام الفقد..
وأن بعض الرحلات التي تبدأ بحزن، تنتهي بمجد، كما بدأت الهجرة بدمعة، وانتهت بالتفاف المهاجرين والأنصار حوله.
دروس تهدي القلب في ليله الطويل
* الرضا ليس قبول الواقع فقط، بل الثقة العميقة أن الواقع هذا طريقٌ لما هو أعظم.
تأمل: المدينة لم تكن مكة التي أحبها، لكنها كانت قدر الله، فصارت حضن النبوة، ومنارة الأمة.
* الوحدة ليست هزيمة إن كنت مع الله.
محمد صلى الله عليه وسلم خرج بغير عشيرة، فصار له أتباع في كل أرض.
* إذا أردت نصرك، فارفع رأسك في قاع الغار لا فوق العرش، فإن المدد يأتي حيث يكتمل الفقر واليقين.
* الطريق المظلم الذي تتجنبه الآن، قد يكون طريقك إلى نور لن يُرى إلا فيه.
ألا ترى أن طريق الهجرة كان فيه خوف وملاحقة وعرق على الرمال، لكنه كان الطريق إلى بدر، وإلى الفتح، وإلى النصر المبين؟
الهجرة.. رسالة متجددة لكل قلبٍ موجوع
من فقدَ، فليُهاجر إلى الرضا.
ومن أذنب، فليُهاجر إلى التوبة.
ومن ظُلم، فليُهاجر إلى العدل الذي عند الله.
ومن قُهِر، فليُهاجر إلى اليقين الذي لا يُهزم. وإن أعظم الهجرات ليست تلك التي تخطو فيها قدماك، بل تلك التي تخوضها روحك حين تُهاجر من «ما أريد» إلى «ما يريد الله».
فاختم عامك كما ختم هو صلى الله عليه وسلم مقامه بمكة، لا بحزن المغادرة، بل برجاء الوصول.
وافتتح عامك كما دخل المدينة، لا مُتوجًا، بل متوكلاً..
ثم انظر، كيف بعد سنوات قليلة، دخل مكة ذاتها فاتحًا، والقلوب تهتف، والسيوف تسجد، والجبال تنحني لصبر ذلك القلب الطاهر.
فهاجر بقلبك، قبل أن تهاجر بخطاك.. فإن مدائن أمانيك لا تُفتح بالأقدام، بل تُفتح باليقين.
وكلما أخلصت في هجرتك، كنت أقرب لأن تُصبح «أنصارياً» جديداً في زمن الغربة.