تغريد إبراهيم الطاسان
«إن الأشياء الصغيرة هي التي لها أكبر شأن وأعظم خطر.»
بهذه العبارة، يلتقط فيودور دوستويفسكي جوهر العلاقات الإنسانية كما لم يفعل كثيرون. فالإنسان، وإن بدا كائنًا معقدًا، إلا أن ما يحرك أعماقه في الغالب لا يكون صاخبًا أو جللًا، بل كلمة عابرة، نظرة مترددة، موقف صامت، أو حتى نبرة صوت واحدة خرجت على غير عادتها.
في العلاقات، لا ينمو الحب فجأة، كما لا يموت فجأة. كل شيء يتراكم. واللافت أن هذا التراكم لا تصنعه المواقف الكبرى فحسب، بل الأشياء الصغيرة - أو ما نعدّه كذلك.
كلمة «شكرًا» حين لا يتوقعها أحد، أو غيابها حين تُنتظر. رسالة صباحية مقتضبة، نبرة صوت جافة، تجاهل لمناسبة شخصية، تأخر في الرد، أو اهتمام مفاجئ ومكرر دون مناسبة… كلها لا تمر بلا أثر.
كل فعل صغير يُفسَّر. وكل تفسير يُؤوَّل بحسب السياق، والعلاقة، والحالة المزاجية، والخبرة السابقة. وهكذا، تتحول الأشياء الصغيرة إلى رسائل كبرى.
فقد يقول أحدهم جملة عابرة من باب المزاح، بينما يسمعها الطرف الآخر كإهانة مؤجلة. وقد ينسى أحدهم أن يسأل عن حال الآخر، بينما يشعر الطرف المقابل أن العلاقة تفقد معناها.
لا لشيء، إلا لأن الأشياء الصغيرة ليست صغيرة كما نظن.
في علم النفس، ثمة مفهوم يُعرف بـ»التراكم العاطفي»، حيث تتراكم المشاعر غير المعبر عنها أو غير المفهومة، وتتحول إلى فجوات يصعب ردمها، لا بسبب كارثة حصلت، بل لأن «شيئًا صغيرًا» لم يُعالج في وقته.
تمامًا كما أن قطرة ماء واحدة لا تُغرق قاربًا، لكنها إذا تكررت كل يوم، قد تثقب الخشب وتغمر المركب.
ولهذا، لا شيء يمضي دون أن يترك أثرًا.
إما أثرًا يُغذي العلاقة، أو أثرًا يُفتت بنيانها رويدًا رويدًا.
ولذلك، فإن الصمت في لحظة كان يُنتظر فيها الكلام، قد يُفسر على أنه تخلٍّ.
والاهتمام في غير وقته، قد يُقرأ كندم متأخر لا يُجبر ما انكسر.
ما الحل إذًا؟
الوعي.
الوعي بأن الأشياء الصغيرة ليست عبثًا، ولا تمر مرور الكرام. أن تزن كلماتك لا يعني التصنّع، بل النُبل. أن تعتذر عند الخطأ ليس ضعفًا، بل وعيًا بأن الندبة تبدأ بخدش. أن تُطمئن الآخر لا يعني شكّه فيك، بل رغبته في الطمأنينة.
العلاقات لا تنهار عادة بضربة واحدة، بل بتصدعات صغيرة تتراكم دون إصلاح.
فلننتبه أكثر، لا إلى العواصف، بل إلى الرذاذ الذي يسبقها.
ولنكن أصدق في تفاصيلنا، وأكثر عناية بما نظنه «تافهًا»، ففي الحياة.. لا شيء تافه حين يتعلق بمشاعر الناس.
وهكذا، فإن الأشياء الصغيرة لا تجرح العلاقات فقط، بل قد تهز كيان النفس ذاتها.
كم من صحة نفسية انهارت لا بسبب صدمة كبرى، بل بسبب وخزات صغيرة ومتكررة: كلمة قاسية لم تُصلح، تجاهل دائم لا يُفسَّر، موقف متكرر يُشعر بالخذلان…
كلها لا تُرى بالعين، لكنها تُخزِن في الروح، وتفعل الأفاعيل في الداخل حتى تذبل النفس أو تنكسر.
الصحة النفسية ليست درعًا فولاذيًا، بل جلدٌ رقيق من الشعور، يحتاج إلى العناية والرفق والاهتمام بالتفاصيل التي «تبدو» بسيطة.
فربّ ابتسامة صغيرة تُرمم ما تهدّم، وربّ كلمة غافلة تهدم ما بُنيَ في سنوات.
فلنحرص على ألا نكون «الشيء الصغير» الذي أسقط أحدهم وهو في قمة احتماله.
ولنكن، قدر استطاعتنا، تفصيلةً لطيفة في حياة الآخرين، لا شرخًا آخر يُضاف إلى شقوقهم.!