هياء الدكان
حصة بنت زيد بن محسن، اسم يلمع في ذاكرة أهالي الدلم بمحافظة الخرج، كواحدة من النساء الرائدات في مجال تعليم الفتيات في وقت مبكر في منزلها، أسست حلقة تعليمية بوسائل متواضعة، لكن بإرادة صلبة وحياة ملهمة.
تجاوزت الثمانين عاماً عند وفاتها، وقد تركت خلفها أثراً عميقاً لا يزال يُذكر ويُحتفى به.
التقيت حفيدتها، نورة بنت عبدالعزيز الشدي، قبل سنوات، فتحدثت عن جدتها لأمها بكل حب وذكريات مؤثرة، قد غرست فيها ما غرست، وتعلمت منها الكثير. فتروي حفيدتها بعضاً من سيرة جدتها لأمها، وتغمر كلماتها محبة وتقديراً لما زرعته فيها من قيم ومعرفة، وما رأته في طفولتها من سيرتها وحياتها، رحمها الله. فتقول:
«عاشت جدتي في بيت متواضع مكوّن من غرفتين ومصباح (بطن الحوي)، وكان الناس يسمون المساحة الداخلية للبيوت النجدية وسط البيت بـ(بطن البيت أو بطن الحوي)، وهو المكان الذي تتوزع حوله الغرف، وينعم أهله بدخول الشمس إليه في وسطه وزواياه، في تصاميم فريدة تميزت بها البيوت آنذاك على بساطتها.
كانت تبدأ يومها من أذان الفجر، تصلي، ثم تفتح الباب وتثبّته بحصاة كي لا يُغلق. وكأنها تفتح للخير أبواباً، من ذلك البيت الذي أمامه وضعت رحى، وضعتها لمن يحتاجها، يستخدمها الجيران لطحن الحبوب، وكانت الجدة تُوقف لله كل ما في بيتها لخدمة من حولها ومن يحتاجه، فكانت ملاذ كل من يحمل كرباً أو لديه حاجة».
في زاوية أخرى من البيت، فرشت حصيراً صغيراً تجلس عليه الفتيات لتعلمهن القرآن الكريم كانت تقرأ عليهن، تحفظهن، وترقي المرضى، وتُعين المحتاجات كل ذلك كان يتم بتلقائية ومحبة، وكأنه جزء من تنفسها اليومي وروتين جميل لا يُمل.
وتضيف: «من ذكرياتي معها أنها - رحمها الله - حفظتني القرآن.
نحسبها استشعرت بأن الله كتب الإحسان على كل شيء فأحسنت، وخصت جيرانها، غير فضل العلم والتعليم الذي كانت تقوم به بجدها وجهدها تتعلم وتُعلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت» رواه مسلم، فكان جل وقتها غرسا وعملا وأثرا وذكرا.
وتستطرد حفيدتها: «كنت أراها تُحفظ القرآن وهي تشتغل بالخوص - تصنع منه سلالاً وسُفرًا ومراوح وغيرها- وهي تُردّد الآيات بصوتها العذب وتُعلم.
كانت امرأة موهوبة بيديها، عاملة بعقلها، مربية بروحها، قارئة بفمها».
تخرجت على يدها العديد من الحافظات، وكانت ملاذاً حانياً للنساء حتى في وقت الولادة، فمن تحتاج تأتي عندها ترعاهن حتى يشتددن ثم يعدن لبيوتهن، إنها صناعة الحُب، وتذكر الحفيدة موقفاً مؤثراً:
«وقف شيخ كبير - الرجل الكبير يُنادى بشيخ توقيراً - وأخذ يطرق الباب بعصاه، وينادي: أم زيد.. أم زيد. يريد منها أن تصلح له عباءته الممزقة، فأخذتها، وذهب، وكان منظر العباءة أنها غير صالحة، ومع ذلك أخذتها ثم قلبت الجزء المهترئ للأسفل وأصلحتها بخفة يد وإتقان، وطبقتها مثل الكتاب.. وبعد أسبوع عاد الشيخ ليأخذها وطرق الباب بعصاه كالمرة السابقة.. وأخذ ينادي، فعرفت أنه هو يريد عباءته، فأرسلتها مع إحدى الطالبات الصغيرات فلما أعطته إياها، فرح كثيراً، ونادى مرة أخرى: أم زيد! وسأل: كم عرقتك؟ - يعني كم أجرتك - فأجابت: عرقتي أن تقول: جعلك في الجنة ووالديك»، كما كانت - رحمها الله - تغسل الموتى وتصبر ذويهم.
وهي صاحبة ذاكرة قوية ولسان ذاكر شاكر.. تقول الحفيدة: كانت جدتي تعيش في زُميقة، بلدة جنوب الدلم، وتذهب مشياً إلى (العذار) حيث تسكن بنتها نورة ، وهذا برنامجها الأسبوعي في استثمار هذا اليوم المبارك فتزور بنتها نورة وتجتهد بأفكارها في طريقها.
فقد كانت تحضر معها طعاماً وخضرة تضعها على رأسها، وأثناء سيرها للعذار تقرأ القرآن جزءاً أو جزأين. وتصل الساعة الثامنة أو التاسعة صباحاً، فتحضر الخطبة، فتسمعها وتحفظها، ثم تُلقي ما سمعته على النساء في البيوت.. لم تكن تنسى شيئاً مما سمعته، وتزور أقاربها وتستثمر يومها، وتطعم في طريقها صاحبات الحاجات والضعفاء، وتراجع حفظها من القرآن وهي تسير، حتى تعود فكان لسانها دائماً رطباً بذكر الله.
وعن حياتها مع الصغار، فلهم من وقتها وحُبها نصيباً كبيرا، فهي تحمل في جيبها دائمًا ما تفرح به الأطفال مما كان موجود وقتها، فتأخذ ما تجده، كالأقط: (وهو قطع صغيرة تصنع من الحليب بعد تحويله للبن رائب وتجفيفه ليحتفظ بجميع خواصه الغذائية ويؤكل مجفف، ومازال متعارفاً عليه حتى اليوم بطعمه وخواصه وطريقته)، وإذا لم تجد شيئاً - رحمها الله - سلقت بيضاً وأخذته معها، تُطعم وتُسعد، وتسعد هي بالعطاء، وكل من يسلم عليها أو من تسلم عليهم من الأطفال، تهديهم إياه، أو تطلب منهم أن يقرؤا لها القرآن، فتسمع وتصحح، وتهديهم، وتكمل يومها، كأنها تحمل رسالة حياة لا تعرف التعب.
وعن أولادها، تقول حفيدتها: أمي حصة كان لديها - رحمها الله - ثلاث بنات: نورة الشدي، وأمي: هيا الشدي، ثم تزوجت برجل بعد جدي من عائلة المعيقل، وأنجبت منه بنتاً سمتها لطيفة. وكلهن توفين - رحمهن الله - وأسكنهن الجنة.
أما عن رحيلها، فهو كما حياتها… طُهر ورضا كما عُرف عنها.
في أواخر أيامها أي ما بين عام 1389/ 1390 هـ، يوافق 1969/ 1970 م، شعرت الجدة بالتعب، وكان ذلك يوم الإثنين، فجهزت كفنها وسدرها، وفراشها باتجاه القبلة، وأرسلت برسالة غير معتادة مع ابن جارتها الذي يدرس مع حفيدها وهي تجلس مع جاراتها كل يوم، فقالت لجارتها:
«قولي لابنك يقول لابني سعد: أمك - تعني جدتك - مشتاقة لابنتها».
فأوصل الابن هذه الرسالة إلى أمه، وقد استغربت، فهي من عاداتها أن تزورها هي بنفسها. وأخذت - رحمها الله - تنادي قريباتها والغاليات عليها وأخواتها كأنها كانت تشعر بشيء، فحضروا عندها وسلموا عليها.
وتابعت: «ثم طلبت ابنتها الثانية من الرياض، وحضرت لها يوم الأربعاء. وحين حضرت بناتها وناموا كلهن عندها، ففي يوم الخميس، ليلة الجمعة، نامت عندها بنتها نورة وهيا، أما لطيفة فهي مقيمة معها.
نامت بينهن تلك الليلة.. ليلة الجمعة، وفي الفجر، وهي على فراشها، تسأل طول الوقت وتقول: أذن الفجر؟ أذن الفجر؟ ويقولون لها: ليس بعد.. ليس بعد. وفي كل مرة هكذا، ثم أُذن الفجر، فقالت ابنتها لها: أمي أمي، أُذن الفجر. فردّت بكلمة قوية مؤثرة: «إذا أُخذ ما وهب، سقط ما وجب»، وكأنها تعني روحها وما وجب الصلاة وفعلاً، فاضت روحها بهدوء، ولم يتحرك فيها شيء. يدها اليمنى تحت خدها الأيمن، ويدها اليسرى على جنبها الأيسر.
في عام 1389هـ، بعث مسؤول في التعليم باسمها إهداء، واعتبروها من أعمدة التعليم في الدلم.
رحم الله الجدة حصة بنت زيد بن محسن، وغفر لنا ولها وجعل لها نصيباً وافراً ومقبولاً من الدعاء والذكر الطيب وذريتها، ورفع ذكرها في الدارين، وجزاها خير ما يُجزى المعلمون الأوائل، والأمهات الصابرات.