العقيد م. محمد بن فراج الشهري
يعد رفض السلام مع الفلسطينيين موقفاً عاماً تجمع عليه معظم التيارات اليهودية، على اختلاف توجهاتها، ومواقفها السياسية، فقد أظهر استطلاع للرأي أجري في عام 2016، أن نصف المجتمع الإسرائيلي يؤيد طرد عرب إسرائيل الذين يشكلون نحو 20 % من إجمالي سكان إسرائيل. وقد أجرى مركز بيو للأبحاث مقابلات وجهاً لوجه مع 5601 بالغ من يهود إسرائيل في الفترة من أكتوبر 2014 حتى مايو 2015، وطرح عليهم سؤالاً مفاده،»إذا كان يجب طرد العرب أو نقلهم من إسرائيل؟»، وأجاب نحو نصفهم بأنهم يؤيدون ذلك، يعنى ما سبق أن موقفهم من الفلسطينيين خارج إسرائيل، في الضفة الغربية وقطاع غزة، سيكون أكثر تطرفاً.
يلاحظ أن اليهود العلمانيين الذين عادة ما يتم تصويرهم بأنهم أكثر اعتدالاً من اليهود المتدينين، لا يتبنون مواقف أفضل حالاً، إذ يؤكد الكاتب الإسرائيلي ستاس جوتكوفسكي، في كتابه المعنون «الدين والحرب وجيل الألفية العلماني في إسرائيل: هل هو عقلاني؟» أنه من خلال إجرائه لمقابلات واستطلاعات للرأي في إسرائيل، وجد أن الشباب اليهودي الإسرائيلي العلماني، الذي كان يمثل العمود الفقري لحركة السلام والرافض للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، أصبح يتبنى مواقف أكثر رفضاً للسلام مع الفلسطينيين، إذ إن أعدادا متزايدة من اليهود الإسرائيليين العلمانيين من جيل الألفية أصبحوا يرون أن احتلال الجيش الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة أمر مقبول، وذلك بعد أربع حروب بين غزة وإسرائيل (2006-2014). أرجع الكاتب هذه المواقف إلى ما سماه برجماتية تلك الفئة، وتركيزها على تحسين أوضاعهم الاقتصادية على اهتمامهم بالسلام، كما أن السياسات الإسرائيلية الأمنية المتطرفة، القائمة على بناء الأسوار نجحت في تأمين إسرائيل من المقاومة الفلسطينية.
لا يتوقف تطرف المواقف الإسرائيلية عند هذا الحد، بل دأبت المراكز البحثية الإسرائيلية، خلال الفترة الأخيرة، وقبل هجوم 7 أكتوبر، إلى تأكيد أهمية طرد الفلسطينيين من قطاع غزة. فقد نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت، تقريرا في يونيو 2023 يفيد بأن «إسرائيل تدرس تسليم إدارة قطاع غزة لمصر، ومد مساحته بأراض من مدينة العريش بسيناء مع احتمال إقامة دولة غزة». وبعد هجوم 7 أكتوبر 2023، تعززت هذه الدعوات فقد دعا سياسيون إسرائيليون ومسئولون من مؤسسة الدفاع الإسرائيلية إلى تنفيذ نكبة ثانية، وحثوا الجيش على تسوية غزة بالأرض، واقترح بعضهم أن على الفلسطينيين الفرار من غزة عبر معبر رفح الحدودي مع مصر والبحث عن ملجأ في شبه جزيرة سيناء، بمن فيهم العميد السابق أمير أفيفى، والسفير الإسرائيلي السابق لدى الولايات المتحدة داني أيالون.
في 17 أكتوبر 2023 نشر معهد مسفاف للأمن القومي والاستراتيجية الصهيونية، وهو مركز أبحاث إسرائيلي أسسه ويرأسه مسئولون سابقون في مجال الدفاع والأمن، ورقة بحثية تحث الحكومة الإسرائيلية على الاستفادة من «الفرصة الفريدة والنادرة لإخلاء قطاع غزة بأكمله»، وإعادة توطين الفلسطينيين في القاهرة بمساعدة الحكومة المصرية، وبشكل منفصل، أوصت وثيقة مسربة من وزارة المخابرات الإسرائيلية بإعادة توطين الفلسطينيين من غزة قسراً في شمالي سيناء وبناء منطقة عازلة على طول الحدود الإسرائيلية لمنع عودتهم.
ويذكر أن الدولة المصرية أعلنت رسمياً رفضها للمخططات الإسرائيلية لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم، سواء بالنزوح داخلياً أو بالتهجير خارج أراضيهم، ولا سيما إلى الأراضي المصرية في سيناء.
وتنظر إسرائيل إلى ما اصطلح على تسميتهم عرب إسرائيل، بأنهم تهديد لها، ويعد هذا أمراً طبيعياً، فحتى قبل قيام الدولة الإسرائيلية، كانت العصابات اليهودية في فلسطين تتبنى سياستين رئيسيتين هما طرد العرب من أراضيهم (De-Arabization) ثم تهويد فلسطين عبر استقدام هجرات يهودية من جميع أنحاء العالم. وعلى الرغم من أن الزعماء الصهاينة الأوائل سعوا لتصوير فلسطين بأنها «أرض بلا شعب»، لحل المشكلة الإسرائيلية في أوروبا، وفقا لقاعدة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، فإن الوثائق الاستخباراتية المفرج عنها حديثا وكذلك المذكرات لبعض الشخصيات اليهودية، كشفت عن إدراك القيادات الصهيونية الإسرائيلية لما سموه المشكلة العربية، أي السكان العرب الأصليين الموجودين في فلسطين.
كان أحد الحلول المقدمة قبل الحرب العالمية الأولى، عندما كان اليهود يشكلون نحو 8 % من سكان فلسطين، اقتراح بعض القادة الصهاينة نقل الفلسطينيين إلى الدول العربية المجاورة. وفي المؤتمر الصهيوني لعام 1937 في زيورخ «لقيت فكرة الترانسفير قبولاً من قبل معظم القادة الصهاينة رفيعي المستوى وأصبحت سياسة رسمية» للحركة الصهيونية، ومن ثم للدولة الإسرائيلية، لذلك، رأى ديفيد بن جوريون، في عام 1937، أن فكرة ترانسفير العرب أو طردهم من أراضيهم، فكرة مبررة اثنياً وأخلاقياً، ورأت «لجنة الترانسفير»، التي شكلها بن جوريون عام 1948، أن نسبة العرب داخل حدود «الدولة العبرية»، يجب ألا تزيد على 15% من سكانها.
تحولت هذه السياسة إلى سياسة رسمية للدولة الإسرائيلية منذ ذلك التاريخ، ففي عام 1948 طردت العصابات الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي نحو 725 ألف فلسطيني من أراضيهم. وفي نكسة 1967، طردت تل أبيب 300 ألف فلسطيني من الضفة الغربية وعدة آلاف من قطاع غزة.
في المقابل عمدت إسرائيل إلى استقدام اليهود من حول العالم، وكانت أكبر موجة هجرة يهودية هم اليهود الروس، الذين تم استقدامهم من الاتحاد السوفيتي فور انهياره في عام 1990.
كانت نظرة إسرائيل للفلسطينيين تقوم على أنهم تهديد دائم لها، سواء كانوا داخل حدود ما يسمى «إسرائيل»، أو في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أي في كامل الأراضي الفلسطينية التاريخية. وعلى الرغم من الجهود الإسرائيلية لتهويد فلسطين التاريخية، فإن المشكلة الديمغرافية لم تنته، بل تفاقمت حدتها مع مرور الوقت، اتضح ذلك في نهاية عام 2022، عندما حدث تواز بين عدد الفلسطينيين واليهود فيما يعرف بإسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة مجتمعتين، إذ يقدر بأن عدد كل من الفلسطينيين واليهود وصل إلى نحو سبعة ملايين نسمة، وبالتالي، فإن جوهر واستمرارية وبقاء الدولة الإسرائيلية يعتمدان على طرد الفلسطينيين، أو على الترحيل القسري لهم. غني عن البيان أن هذا يمثل جريمة حرب، بموجب القانون الدولي الإنساني.
في ضوء هذا الوضع، فإن المجتمع الإسرائيلي يدرك هذه الحقيقة بجلاء، ولذلك يتسامح دوماً مع مخططات حكومته القائمة على طرد الفلسطينيين، واستهداف المدنيين، إذ لا يمكن حث الفلسطينيين على مغادرة أراضيهم ما لم يتم ارتكاب مجازر بحق المدنيين منهم، كما أن هناك مشكلة أخرى يطرحها التوازن السكاني بين الإسرائيليين والفلسطينيين هي استبعاد حل الدولة الواحدة عملياً كمدخل لتسوية المشكلة الفلسطينية أي اعتبار أن إسرائيل وفلسطين دولة واحدة، والأغلبية هي التي تقوم بالحكم. يعنى هذا المنطق أن الفلسطينيين خلال فترة قصيرة سوف يشكلون الأغلبية العددية، وبالتالي سوف يكون بمقدورهم الحكم، وهو أمر لا يمكن أن تقبل به الدولة العبرية التي أسست شرعيتها على أنها دولة دينية أي دولة تضم اليهود حول العالم.