د. تنيضب الفايدي
هذه الصورة قديمة جداً، لكن عندما أتذكّرها تكبر قليلاً لتضم ميناء ينبع قديماً مع السوق الينبعاوي المغطاة، ثم برهة ميناء ثم قهوة تدخل في البحر قليلاً بجوار مسجد الجمعة الوحيد، وبعد أداء الجمعة يتم الحراج على مختلف المعروض، وأتذكر من المعروض قليل من الخشب قد يحمله طفل واحد ولكن ذلك حركة من حركات السوق، والذي بعده يأتي مع بضاعة أخرى قليل من السمك (الناشف)، وكانت حركة السوق قوية لأيّ نوع ينزل في هذا الحراج..
وأصبح الموقع من المواقع المحبوبة، وكل حبّ للمكان يأتي تبعاً لحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة المشرفة والمدينة المنورة (.. اللهم حبَّبْ إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد..) الحديث متفق عليه.
وحيث إنّ كل موقع يولّد لدى كلّ من سكنه الذكريات والحبّ؛ لأنّ ارتباط أي كائن حيّ وعلى رأس القائمة الإنسان بموقع سكنه شيءٌ فطري، وكما هو معروفٌ فإن المنازل تذكي الحنين إلى الوطن وتجعل من يسكن بها أو سكنها وأصبحت أطلالاً يبكيها بعاطفة صادقة مشتاقة، وتشعل لهيب الشوق، وتؤجج الذكريات، وحبّ المنـازل أو الديار هو بداية لحبّ الوطن بأكمله، فما أكثر من نثر الحبّ شعراً لمنازله أو دياره.
وانطبع حبّ الأماكن، ومنها حارات ينبع القديمة ولاسيّما المنازل التي نشأت بها، وأتذكرها كلما مرّ علي اسم ينبع أو ذكر الديار والبكاء عليها وتؤثر في نفسي كثيراً ..
إنّ المنازلَ هيّجت أطرابي
واستجمعت آياتها بجوابي
قَفراً تَلوحُ بِذي اللُجَينِ كَأَنَّها
أَنضاءُ رَسمٍ أَو سُطورُ كِتابِ
لَمّا وَقَفتُ بِها القَلوصَ تَبادَرَت
مِنّي الدُموعُ لِفُرقَةِ الأَحبابِ
وَذَكَرتُ عَصراً يا بُثَينَةُ شاقَني
وَذَكَرتُ أَيّامي وَشَرخَ شَبابي
يزداد الاعتناء بتلك المنازل إذا أصبحت أطلالا..
دعاكَ الهَوى واستجهلتكَ المنازلُ
وكيفَ تَصابي المرءِ والشَّيبُ شاملُ
وقفتُ بربعِ الدَّارِ قد غيَّر البِلى
معالِمه والسَّارياتُ الهواطلُ
أسائِلُ عن سُعدى وقد مرَّ دونها
على حُجُراتِ الدَّار سبعٌ كواملُ
ولمعان البرق أجّج الحنين إلى تلك المنازل:
سَما برقُ الجُمانة فاستطارا
لعلَّ البرقَ ذاك يحورُ نارا
قعدتُ لها العشاء فهاج شوقي
وذكّرني المنازل والدِّيارا
فلم أملك دموع العين مني
ولا النَّفس التي جاشت مِرارا
والبعد عن المنازل أو الديار يبلغ بصاحب تلك المنازل اليأس ولا تطيبُ حياته:
أبت بالشَّام نفسي أنْ تطيبا
تذكَّرتُ المنازِلَ والحبيبا
تذكرَّت المنازلَ من شعوبٍ
وحيّاً أصبحوا قُطِعُوا شُعُوبا
سَبَوا قلبي فحلَّ بحيث حَلُّو
ويعظُم إن دَعَوا ألا يُجيبا
وقد أحنّ إلى تلك المنازل التي قضيت فيها صباي وأتذكرها؛ لأنّ أطلالها تذكي العاطفة وترقق الشعور، وترهف الحسّ، وتشتعل الألفاظ حباً وحنيناً، ويتدفق الخيال الذي تؤججه الذكريات:
أحنُّ إلى تلك المنازِل كلما
غَدا طائرٌ في أيكةٍ يترنّمُ
بكيتُ من البَين المُشتِّ وإنني
صبورٌ على طعنِ القَنَا لو علمتُمُ