د.عبدالله بن موسى الطاير
بالتزامن مع الأمل الذي بشّر به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، واعداً بسلام قادم للمنطقة، ولّد تصريح رئيس الوزراء البريطاني في اليوم التالي بأن «عدم اليقين الشديد يجعل السلام بعيد المنال» موجاتٍ من القلق العالمي. التصريح جاء من بريطانيا التي أعتبرها العقل المدبر في السياسية العالمية، مقارنة بأمريكا التي غالبا ما تكون أشبه بعضلات التنفيذ.
التصريح البريطاني، حتى وإن كان هدفه تسويق صفقة شراء طائرات مقاتلة من أمريكا إلى الرأي العام المحلي، فإن قراءته في سياق اللحظة ينذر بخراب شامل.
حلف شمال الأطلسي (الناتو) وافق بالإجماع على زيادة الإنفاق العسكري إلى 5 % من الناتج المحلي الإجمالي، وهذه الزيادة لا تذهب لميزانية الحلف وإنما لبناء القدرات العسكرية على مستوى كل دولة عضو، وأمريكا قررت نشر 700 طائرة مقاتلة من طراز F-35 في أوروبا، وصفقة بريطانيا لشراء مقاتلات أمريكية قادرة على حمل رؤوس نووية، تُشير مجتمعة إلى عالمٍ يتأهب للصراع المسلح.
السؤال المشروع والحالة هذه هو: هل شهد العالم هذا المستوى من عدم اليقين من قبل، ولماذا يبدو المشهد مُحفوفاً بالمخاطر؟
يعيد الشعور بعدم اليقين إلى الذاكرة الإنسانية لحظاتٍ تاريخيةً وقفت فيها القوى العالمية على شفا الكارثة.
في أوائل القرن العشرين، وقبل الحرب العالمية الأولى، خلق سباق التسلح حالة من انعدام الثقة بين القوى الدولية المؤثرة، وصلت إلى مرحلة الاحتقان الذي كان بحاجة إلى مثقب للانفجار، وما كان ذلك سوى اغتيال أرشيدوق النمسا فرانز فرديناند عام 1914م الذي قدح شرارة الحرب. حادثة الاغتيال كان يمكن أن تمر بسلام كغيرها من الحوادث لو لم تكن حالة الريبة والترقب والقلق قد بلغت أوجها.
وبالمثل، شهدت فترة ما بين الحربين العالميتين في ثلاثينيات القرن الماضي انهيارًا اقتصاديًا، وعودة القومية إلى الواجهة، وتشجيع سياسات الاسترضاء للأنظمة العدوانية، لتبلغ ذروتها في الحرب العالمية الثانية.
في كلا العصرين، نشأ عدم اليقين في غياب قنوات دبلوماسية فاعلة، وبسبب الشك المتبادل والمتعاظم، وفي الاعتقاد بأن القوة العسكرية يمكن أن تحقق السلام الدائم.
اليوم، تتصل التحديات ببعضها، والتوترات الجيوسياسية بدلا من أن تصنع عالما متعدد الأقطاب، لا يمكن قوة واحدة أن تملي شروطها، هيأت الظروف لفاعل دولي واحد فرض شروطه على الجميع، وعليهم السمع والطاعة.
من جانب آخر، فإن الهشاشة الاقتصادية التي تفاقمت بسبب التضخم، وانقطاعات سلاسل التوريد، وأزمات الطاقة، غذت الاضطرابات المحلية والحركات الشعبوية التي تضغط على أطر التعاون الدولي.
يُضيف تغير المناخ، والهجرة وندرة الموارد، قدرا من الغموض وعدم القدرة على التنبؤ بالمستقبل. في الوقت نفسه، تتجاوز التطورات التكنولوجية في التسلح الأطر المتوافق عليها دوليا لضبطه، تاركةً الدول القوية في حالة دائمة من جنون العظمة.
يمكن الإشارة للحرب الباردة في سياق اجترار السوابق، حيث اتسم التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بالاستقطاب الأيديولوجي وسياسة حافة الهاوية النووية، إلا أن الإطار ثنائي القطبية تمتع بقواعد يمكن التنبؤ بها حيث حال مبدأ الردع المتبادل دون وقوع صراع مباشر بين القوتين الغربية والشرقية، ووفرت مؤسسات مثل الأمم المتحدة منتديات للحوار بين الطرفين.
أما اليوم، فإن آليات الردع والحوار شبه معطلة، فانتشار الجهات الفاعلة من غير الدول، والحرب الهجينة، وحملات التضليل، يطمس الخطوط الفاصلة بين السلام والصراع، وعلى عكس التوتر المُهيكل الذي ساد خلال الحرب الباردة، يبدو المشهد الحالي فوضويًا، في ظل غياب فهم مشترك للخطوط الحمراء أو آليات خفض التصعيد، وهو ما يجعل الشرارة التي يتطلبها الانفجار متاحة ورخيصة الثمن.
ما يزيد هذا الغموض حدة ورعبا تآكل الثقة في المؤسسات متعددة الأطراف، والاستقطاب الداخلي في الديمقراطيات الغربية، الذي أضعف قدرتها على إظهار موقف موحد، يضاف إلى ذلك سرعة انتقال المعلومات التي تزيد من قلق الجماهير، مما يجعل استجابات الدول المدروسة للتحديات أكثر صعوبة، عطفا على هذه المقدمات فإن تصريح رئيس الوزراء البريطاني، يهدد بتصعيد هذه الدورة من الخوف وردود الفعل.
حتى لا نعبر الجسر قبل وصوله، ولا نزيد النفوس تأزما، فإن التاريخ يقدم إلى جانب المقاربات القاتمة شعاعا من الأمل أيضا. فقد أظهرت أزمات مثل أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962م أنه حتى على حافة الهاوية، يمكن للدبلوماسية أن تنتصر عندما يعطي القادة الأولوية للحوار على حساب الكرامة والفخر الشخصي.