د. داليا عبدالله العمر
في خضم هذا العصر المتسارع، حيث تتغير الموازين وتتبدل القيم، استشرى الظلم كداءٍ عضال ينخر جسد العلاقات الإنسانية. لقد بات جزءًا مؤلمًا من تفاعلاتنا اليومية، يتجلى في الأقوال الجارحة، والأفعال المشينة، بل وحتى في خبايا النوايا الملتوية والظنون السيئة. صرنا نشهد صورًا شتى لهذا الاستئثار البغيض بالحقوق، من غش وخداع يقوضان الثقة، إلى إساءة الظن وتلفيق التهم التي تدي القلوب.
إن الظلم بجوهره القبيح يُعد أبشع أنواع الاعتداء الأخلاقي؛ فهو يهدم أسس العدالة الراسخة، ويشيع الفساد في أوصال المجتمعات، ويوجه طعنة نافذة إلى أثمن ما يملكه الإنسان: كرامته الغالية وإحساسه بالأمان.
وقد أكدت دراسات علمية موثقة، مثل البحث الرصين المنشور في دورية Psychological Trauma Journal، أن وطأة الشعور بالظلم تخلف آثارًا نفسية عميقة الجذور، تقود إلى براثن القلق والاكتئاب وأعراض الصدمة النفسية، مما يجعل تجربة الظلم من أقسى صنوف الألم النفسي، حيث يفقد المرء إحساسه بقيمته الذاتية وشعوره المستحق بالتقدير.
ولعل أشد أنواع الظلم مرارة وأكثرها إيلامًا للروح هو جور الأقربين، أولئك الذين يُفترض أن يكونوا ملاذًا آمنًا وسندًا متينًا في دروب الحياة. وقد صدق الشاعر العربي حين قال: «وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً على النفس من وقع الحسام المهند»، في إشارة بليغة إلى أن جرح القريب أعمق أثرًا وأشد وجعًا من ألم السيف القاطع.
ولأن الله جل جلاله هو العدل المطلق الذي لا يحيّف ولا يجور، فقد نزّه ذاته العلية عن الظلم، كما تجلى في الحديث القدسي الشريف:
«يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا».
تدبر عظمة هذه الكلمات الربانية: لم يحرم المولى عز وجل على نفسه شيئًا سوى الظلم، مما يبرز جسامة هذا الفعل وعواقبه الوخيمة في الدنيا والآخرة. ومن فيض رحمته وعدله سبحانه وتعالى أن دعوة المظلوم مصانة ومستجابة لا محالة، فقد قال النبي الأمين صلى الله عليه وسلم: «واتق دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب».
ولم يقتصر هذا الوعد الحق على المؤمنين وحدهم؛ بل إن الله السميع العليم يستجيب لتضرع المقهور حتى لو كان كافرًا، كما جاء في الحديث الشريف: «دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرًا، ففجوره على نفسه»، مما يدل على أن العدالة الإلهية منزهة عن كل تحيز أو غبن.
إن الله سبحانه هو العدل الذي لا يظلم مقدار ذرة، كما تجلى ذلك في قوله الحق:{إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (40) سورة النساء. فالله لا يضيع حق أحد، صغيرًا كان أو كبيرًا، مؤمنًا أو غير مؤمن.
وفي الختام، فإن الظلم هو الشرارة الأولى لاندلاع حرائق الخراب في الأمم، وهو الآفة التي تستنزف بركة المجتمعات وتذهب برونقها. ومن توهم أن ظلمه سيمر دون حساب، فقد غره ظنه وخانه تقديره، إذ إن جزاء الظالم معجل في الدنيا قبل يوم الحساب. ولا سبيل لخلاص المجتمعات ونهضتها إلا بإحياء قيمة العدل السامية، والتشبث بها قولًا وفعلًا، سرًا وعلنًا.