عايض بن خالد المطيري
في عالم تداخلت فيه المصلحة مع النية الحسنة، وغلبت الشهرة على المسؤولية، برزت ظاهرة مؤرقة تستحق التوقف عندها طويلاً. إنها ظاهرة استغلال بعض المشاهير لمنصاتهم الرقمية في الترويج لمراكز طبية وأطباء، داخل المملكة وخارجها، دون أدنى تحقق من جودة العلاج أو صدق النتائج التي يُبشرون بها. فبمجرد أن تطأ قدم أحدهم عيادة طبيب، تبدأ صفقة: علاج مجاني مقابل إعلان. صفقة يُغلفها الإعجاب، وتُغذيها المجاملة، وتفتقر إلى أدنى درجات المسؤولية الإنسانية.
تبدأ الحكاية حين يقرر الطبيب - وربما بدافع تسويقي محض - سرد قصص منجزاته الخارقة أمام ضيفه «المؤثر»، مدّعيًا علاجات غير مسبوقة وحالات شفاء أقرب إلى المعجزات. وما إن يسمع المشهور هذه الرواية، حتى يبدأ في تصوير مقاطع متتابعة يُثني فيها على الطبيب وعلاجه، وقد يحلف الأيمان المغلظة، ويطلق النداءات العاطفية للمرضى بالتوجه فورًا إليه، بل يؤكد - بثقة مريبة - أن هذا الطبيب نجح حيث فشلت المستشفيات الكبرى، وكان سببًا في شفاء حالات ميؤوس منها، وربما منح ذرية للكثيرين بعد عقم طويل.
في الظاهر، يبدو الدافع نبيلاً: نية في الخير، ورغبة في مساعدة الآخرين. لكن النية الطيبة وحدها لا تكفي، بل قد تكون في بعض الأحيان بوابة للضرر، خاصة حين تتجاوز حدود الحكمة إلى سذاجة مؤذية. المشكلة أن هؤلاء المؤثرين لا يخضعون للعلاج الذي يروجون له، ولا يمرون بتجربة حقيقية تمكّنهم من الحكم عليه، بل يكتفون بسرد روايات غير موثقة، ويفتحون أبواب الثقة العمياء أمام متابعيهم، الذين قد يكون بعضهم في أمسّ الحاجة إلى علاج، أو في لحظة يأس يتعلق فيها بأي أمل يُلقى أمامه.
وليس من المستغرب أن نجد من بين هؤلاء المتأثرين من يتجه إلى هذا الطبيب، ويدفع المال، وربما يسافر مسافات، ليتبين لاحقًا أن العلاج لم يكن كما وُصف، أو أن الطبيب يُحسن الحديث أكثر مما يُجيد الطب. وفي هذه اللحظة، لا يُصاب المتضرر بخيبة أمل فحسب، بل قد تتفاقم حالته الصحية، أو يُصاب بمضاعفات يصعب تداركها. والأسوأ من ذلك، أنه قد يفقد ثقته في المنظومة الطبية كلها، في الداخل والخارج، بسبب وهم باعه له شخص يثق به ويتابعه بإعجاب.
ولنا أن نسأل: كم من مشهور تسبب - دون قصد - في توجيه مرضى إلى معالجين غير أكفاء وألحق بهم الأذى؟ كم من عائلة خسرت أموالها؟ وكم من مريض فَقَد وقته الثمين، بل وربما صحته، في سبيل تجربة وُصفت له عبر فيديو تمثيلي خالٍ من المسؤولية؟
في هذا السياق، لا يمكن الاكتفاء بلوم الأفراد فقط، بل على الجهات الرقابية المعنية، ممثلة في وزارة الصحة وهيئة الغذاء والدواء، أن تقوم بدورها بشكل أكبر ومكثف في تتبع هذه الإعلانات، ومحاسبة من يروج لها دون صياغة إعلانية مفهومة أو تحقق طبي، والعمل على إيقاف الحسابات المخالفة. فصحة الناس ليست مجالًا للتجريب أو الشهرة، والطب ليس ميدانًا للتسويق الخادع.
الرسالة الأهم هنا أن نتحمل جميعًا مسؤوليتنا الأخلاقية والمجتمعية. أن نتريث، ونتحقق، ونتجنب التسرع في الترويج لأي جهة أو علاج لمجرد أنه بدا مبهرًا في الظاهر. نحن لا نملك فقط متابعين، بل نملك تأثيرًا، وربما مصائر تُبنى على كلماتنا. ومن المؤسف أن يكون جهلنا أو استعجالنا سببًا في أذى إنسان آخر، ولو من غير قصد. فليكن التحقق هو القاعدة، والحرص هو المبدأ، ولنتذكر أن كل كلمة ننشرها قد تُشفي، وقد تجرح.