عبدالوهاب الفايز
الذي يزور الصين هذه الأيام ويرى حجم التطور الكبير، بالذات في المشاريع والمبادرات الكبرى الأساسية التي بُنيت في العقود الثلاثة الماضية، يدرك حجم (الفرص التاريخية) المتاحة لنا الآن للاستفادة من هذه التجربة العظيمة في البناء والتنمية.
وأكبر النقلات التي حققتها الصين تخدمنا في موضوع إستراتيجي، هو أهمية كفاءة التعامل مع الموارد البشرية العاملة في اقتصادنا الوطني، سواء كانت موارد بشرية سعودية أو غير سعودية.
اقتصادنا يعاني من مرض مزمن وهو: الاستخدام الكثيف للعمالة غير الماهرة في قطاعات عديدة! وهذا لن يساعدنا في برنامج التوطين. وقطاع الخدمات سوف يعاني من قلة الكفاءة والجودة، وسوف يظل اقتصادنا يوظف العمالة غير الماهرة، بالذات غير الوطنية.
الصين نجحت بشكل مذهل في مكننة قطاعات عديدة وخفضت كثافة العمالة مما قلل التكلفة ورفع الجودة، رغم البحر البشري الكبير. الآن المصانع وخدمات المدن ومختبرات المستشفيات تعمل على مدار الساعة لوجود المكننة الذاتية. وحتى في الفنادق تستخدم الروبوتات لإيصال الطعام إلى الغرف.
ربما نسأل: هل نحن هنا في السعودية بحاجة للاستفادة من مكتسبات هذه التجربة الصينية، والتعلم من نجاحاتها وإخفاقاتها؟
نعم، نحتاج هذه لأننا مستمرون في بناء المشاريع الأساسية بالذات في الإسكان، والصين حققت نقلة عظيمة في بناء المشاريع العملاقة في الإسكان والصناعة والزراعة والطرق والقطارات السريعة، والآن تنطلق بقوة في مشاريع الطاقة الخضراء بالذات طاقة الهيدروجين، والذكاء الاصطناعي.
نحتاج حاليا الاستفادة من زخم الاقتصاد الصيني الذي يمر بمرحلة طفرة عالية في الإنتاج الصناعي المعد أغلبه للتصدير. هذا الإنتاج يواجه عقبات التجارة الدولية الجديدة؛ حيث تبادل الرسوم الجمركية العالية خصوصاً مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وفترة الارتباك وعدم اليقين التي يشهدها الاقتصاد العالمي تقدم فرصة لنا للاستفادة من تجربة الصين في عدة مجالات. أمامنا فرصة للاستفادة من (سرعة إنجاز) المشاريع العملاقة، فقد استطاعت الشركات الصينية الوصول إلى مستويات غير مسبوقة في الإنجاز حيث يتم تسليم المشاريع حسب الجداول المتفق عليها، مع الالتزام بمعايير الجودة.
أيضا تجربة الصين تقدم فرصة في (خفض التكاليف) للمنتجات الصناعية والاستهلاكية، وهذه سوف تكون في صالح المستهلك السعودي، كما كانت في صالح المستهلك الأمريكي والأوروبي. كما تتيح للاقتصاد السعودي الاستفادة من قوة الاقتصاد الآسيوي، والتحالف التجاري مع كبار عملائنا المستهلكين للطاقة.
وهناك مبادرة نوعية تخدم اقتصادنا. لدينا فرصة لإطلاق مشاريع عملاقة لإنتاج الطاقة الكهربائية التي تحتاجها ثورة الذكاء الاصطناعي. فالفرصة المتاحة الآن تتماشى مع توجهنا لـ(توطين صناعة الطاقة) في المملكة. الشركات الصينية شريك استراتيجي رئيسي لإنتاج مشاريع الكهرباء العملاقة مع بناء مجمعات الذكاء الاصطناعي. كذلك موقع المملكة الجغرافي يعطيها الفرصة الذهبية لتكون أحد مراكز منظومة الذكاء الاصطناعي العالمية. ماحققته الصين في هذا المجال يلتقي ويخدم تطلعات المملكة للاستثمار الاستراتيجي في الذكاء الاصطناعي. الآن في شنغهاي مركز بناء المشاريع المشتركة في الذكاء الاصطناعي لمجموعة دول بركس.
والشراكة الإستراتيجية مع الصين تحتاج أموراً مثل:
أولاً: ضرورة تسريع التعاون وتجاوز العقبات البيروقراطية الحكومية المعيقة للتطور السريع في الشراكات النوعية التي نحتاجها.
ثانياً: معالجة الجوانب الثقافية والاجتماعية التي تعيق التواصل والتفاعل النوعي الفعال بين البلدين. العوائق الثقافية عامل حاسم في تسريع أو تعطيل العلاقات بين الدول. عدم الفهم الثقافي ينتج تصورات سلبية نمطية تؤثر على السلوك الإيجابي.
ثالثاً: استثمار الإرادة السياسية القوية بين زعماء الدولتين التي بنيت بينهما في العقود الماضية، وساهمت في تحقيق النقلة النوعية الكبيرة للعلاقات بين البلدين.
رابعاً: استثمار الحيوية السياسية للبلدين، فالصين حققت إرادتها السياسية في البناء السريع القوي للأمة الصينية. فخلال العقود الأربعة الماضية حققت الصين التفوق الاقتصادي والعسكري وبنت التحالفات السياسية الإستراتيجية أكثر مما حققته في تاريخها الطويل.
أيضا، السعودية تنطلق الآن إلى حقبة جديدة في التنمية وتكريس الاستقرار وبناء شركات إستراتيجية مع التكتلات والقوى الاقتصادية العالمية بما يخدم مصالح الشعب السعودي.
خامسا، ضرورة توجيه المجموعات التجارية السعودية والصينية إلى أهمية التركيز على بناء علاقات تجارية واقتصادية وصناعية إستراتيجية بعيدة المدى، وليس مجرد الحصول على (عقود وقتية سريعة)، فالكيانات التجارية الكبرى تحتاج مشاريعها إلى النمو الطبيعي المستقر الذي يأخذ جميع الظروف والمتغيرات المحفزة والمعيقة في الحسبان، وهذه النظرة بعيدة المدى هي التي تبني الشركات الكبرى، وتحقق الأرباح والمكتسبات المتساوية، فالنجاح يُبنى على النجاح.
الصين الآن دولة عظمى، وحققت مقاييس ومتطلبات القوى العظمى، وتمضي بقوة، وتعرف ماذا تريد، وراكمت الخبرة الإدارية، وتفوقت في التنمية البشرية بسرعة مذهلة نتيجة الخطط الذكية التي تبنتها قيادات الحزب لتكثيف التعليم في المجالات العلمية التي تضمن التفوق الصناعي.
الصناعة هي مرتكز المرور الحضاري والتفوق الاقتصادي والحضارة الغربية تفوقت: لأنها ركزت على الصناعة.
وتطور الصين الحديثة تم عبر محاور رئيسية أولها واهمها: تحقيق الاستقرار الأمني. فالحزب الشيوعي الصيني استثمر قدرة الدولة الأمنية لتحقيق الانضباط الوظيفي، وكفاءة الإدارة ومحاربة الفساد، والتربية الوطنية للناس في الفضاء العام. وهذا أدى إلى التركيز على البناء والتنمية الاقتصادية والبنية التحتية.
معجزة النمو مثالها الحي: تحول الصين من دولة زراعية فقيرة كانت تتلقى قروض المساعدات (منها قروض من بنك التنمية السعودي)، إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم خلال عقود قليلة أدى إلى أعظم إنجاز تمثل بانتشال مئات الملايين من الناس من الفقر.
وقفزة النمو تحققت في شبكات المواصلات الحديثة، وتم بناء أطول شبكة قطارات فائقة السرعة في العالم (أكثر من 45.000 كم)، وشبكات طرق سريعة شاسعة، وموانئ ومطارات متطورة (مثل مطار داشينغ الدولي في بكين). وهذا أدى إلى ربط المدن والقرى بسلاسة، وبنت مشاريع عملاقة مثل جسر هونغ كونغ-تشوهاي-ماكاو، سد الممرات الثلاثة، مشاريع الجزر الاصطناعية وتطوير ميناء يانغشان في شنغهاي. وهذه تقدم إنجازات كبرى في التشييد والبناء.
والذي تفوقت فيه أيضا هو الابتكار التكنولوجي والرقمنة والذكاء الاصطناعي. فالصين لها الريادة في مجال 5G، وفي الذكاء الاصطناعي (AI) تستحوذ على ما يقارب 50 % من نسبة المواهب البشرية العالمية. كذلك تمتلك الحصة الرئيسية في سوق السيارات الكهربائية، والطاقة المتجددة (طاقة شمسية ورياح)، وفي طريقها للتفوق في الطيران التجاري (طائرة C919).
وأحد جوانب التفوق الصيني البارز توسع المجتمع النقدي. التطور الرقمي أدى إلى نقلة مهمة وهي إدارة (المدن الذكية). واستخدام البيانات الضخمة وإنترنت الأشياء (IoT) لإدارة حركة المرور، الأمن، الطاقة، والخدمات البلدية طور كفاءة عالية في إدارة العديد من المدن العملاقة، هذا مكن الدولة من الإدارة والسيطرة الفعالة على الحشود البشرية الضخمة، وتجلت كفاءة الإدارة الحكومية أثناء أزمة كورونا.
باختصار، ما نقترحه هو إيجاد آلية عملية مثل: «إنشاء «المركز السعودي الصيني للتنمية الإستراتيجية والشراكة الاقتصادية» ككيان اعتباري مستقل، ليكون محورًا للأعمال المشتركة حتى يحقق:
1 - تذليل العقبات الإجرائية: نحتاج نافذة موحدة لتراخيص المشاريع المشتركة، واختصار الإجراءات البيروقراطية، وحل النزاعات التجارية بسرعة.
2 - بناء الجسور الثقافية والإدارية عبر تصميم برامج لتبادل الخبرات، وورش عمل لفهم البيئة الثقافية والتنظيمية في كلا البلدين، وترجمة المعايير الفنية والإدارية.
3 - تحديد وتمكين الفرص عبر إجراء دراسات جدوى مشتركة، وتطوير خرائط استثمارية دقيقة، وربط الشركات السعودية والصينية المناسبة بشكل مباشر وفعّال.
4 - تطوير الكوادر الوطنية: تصميم برامج تدريب مكثفة في إدارة المشاريع الضخمة، تكنولوجيا الطاقة الخضراء، الابتكار، والذكاء الاصطناعي، مستفيدة من الخبرة الصينية.
5 - تنسيق السياسات والرؤى عبر ربط مبادرات رؤية المملكة 2030 مع مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، واستثمار الإرادة السياسية القوية والعلاقات الثنائية المتميزة بين القيادتين لدفع التعاون.
السعودية، بقيادتها الواعية، كانت سبّاقة إلى التعاون مع الصين (مشاريع الطاقة، البتروكيماويات مثل «سابك»). اليوم، أمامنا فرصة تاريخية لتعميق هذه الشراكة وتحويلها إلى (تحالف إستراتيجي شامل) بتبني الدروس العملية من التجربة الصينية، خاصة في الكفاءة والابتكار والاستدامة، وتفعيل دور «المركز السعودي الصيني»، يمكننا تسريع تحقيق أهداف رؤية 2030، وتعزيز مكانة المملكة كقوة اقتصادية رائدة، وبناء مستقبل أكثر ازدهارًا واستقرارًا لبلادنا، في إطار شراكة متكافئة ومربحة للطرفين. النجاح يُبني على النجاح، والوقت الآن هو وقت العمل النوعي المحترف، وبقيادات نوعية محترفة ولها التجربة العملية الناجحة الطويلة.