طارق مصطفى القزق
قد يشعر المرء بالإحباط أحيانًا عندما يعجز عن التعبير عن نفسه وذاته، لا لضعف فيه، بل لعدم امتلاكه الكلمات المناسبة لوصف مشاعره وما يمر به، وكأنه مصاب بعطب في أحد أجزاء رأسه. ورغم قدرته على الحديث والتفكير وتذكر الأحداث، فإننا نتفق على أمر شائع، وهو تعرضنا لأحداث ومواقف متكررة، تتشابه في جوهرها وتختلف في تفاصيلها، نطلق عليها أحيانًا «سنة الحياة» أو «السنن الكونية».
ومهما اختلفت المسميات، يظل هناك شيء يحدث خارج إرادتنا وأكبر من تفكيرنا، ويثار التساؤل: ما سبب حدوث هذا الأمر، سواء أكان «جيدًا» أم «سيئًا»، لنا؟ ولماذا مررنا بهذه التجربة؟ وما هو حديث الموتى؟ إن طرح مثل هذه الأسئلة أمر طبيعي، نابع من رغبتنا في فهم كل ما يحدث لنا ويؤثر فينا. للإجابة على هذه الأسئلة، علينا اختيار المنهج الذي سيمكننا من ذلك، بمعنى أدق، لكل منهج تفسيره الخاص لهذه الأسئلة، تفسير يبسط ويفند هذه التساؤلات. وقد وقع الاختيار على ثلاثة مناهج في التفسير، ليس الغرض منها إثبات صحة منهج على آخر، بل محاولة إبراز الفوارق بين هذه المناهج.
في الإجابة عن هذه الأسئلة يقوم المنهج العلمي أساسًا على التفسير المادي المحسوس والتجريبي، وأن تحليله لتكرار الأحداث والمواقف والرموز التي تحدث في حياتنا ليس لها معنى سوى أنها صدفة، والصدفة هي كعثورك على قلمك المفضل في كومة الأقلام لديك في أدواتك المبعثرة «العشوائية»، فالمتوقع هنا صدفة أنك ستعثر عليها، ولربما على أقل تقدير نوعًا من الإيحاء والإلهام، وقد ينظر العلم من الناحية التطورية أن تكرار المواقف والأحداث، حتى لو كان بينهم فارق زمني، يعود إلى التشابه في تكوين العقل الإنساني وتركيبه، بالإضافة إلى هذا تشابه البيئة والجغرافية، فإننا نتعامل مع كل ما يحيط بنا طبقًا لعقل واحد مختلف الدرجات في الذكاء، سواء أكان هذا العقل عاش في أي عصر كان، بدائيًا أو معاصرًا.
ورغم منطقية الإجابة، إلا أن هناك ما ينقصها، فهي لم تعطِ تفسيرًا حقيقيًا حول أحد المواقف المتكررة التي سمعتها كثيرًا، ممن أعرفهم، حول أن يأتي أحد المتوفين في المنام فيخبرك عن شيء ما، فتجد أن ما قاله هذا المتوفى حقيقي أمام عينك.
وأذكر أحد المواقف التي حدثت مع إحدى القريبات، في قولها: كانت هناك امرأة تأتي وتشتري بضاعة مني وتدفع أقساطًا كل شهر، وعليها دين ما يقرب من سبعة آلاف، ثم توفيت هذه المرأة وظل الدين عليها، ولم تأتِ لسد الدين! وكانت قريبتي معها سجل للتعاملات المالية مع الزبائن، ولكنها تناست الأمر؛ حتى أتت امرأة لا تعرفها، فقالت لها إن هناك امرأة كانت تشتري منك بضاعة، وكان عليها دين مقداره سبعة آلاف! فأجابت: من أين علمت بهذا الأمر؟ قالت هذه المرأة: أتت في منامي وذكرت لي الحادثة، وطلبت بأن يرد أخوها دينها! وأشارت إليك في المنام بأن أبلغك. فتواصلوا مع شقيق المتوفاة، وذكر أنه لم يكن يعلم أن شقيقته عليها دين، فطلب من قريبتي المسامحة، وأنه سيرد الدين بدلاً عنها! وأزيد على هذه الحادثة حادثة أخرى، حتى لا تكون مجرد صدفة، فعندما توفي أحد الأشخاص الذين أعرفهم، مر بيته بأزمة مالية، حتى أتى المتوفى وقال لزوجته: ستجدين مالًا في أحد جيوب البذلة، فاستيقظت صباحًا ووجدت المال في البذلة. هناك الكثير من القصص التي يمكن سردها، ولربما مررت عزيزي القارئ بتجارب مماثلة أو سمعت عنها، ولكننا أحيانًا ننساها أو نسقطها عمدًا من ذاكرتنا.
حينما نفكر من الناحية السوسيولوجية فلن نجد إجابة سوى في وظيفة الدين؛ كونه يفسر الأحداث الغامضة ليخفف من القلق! لتماسك المجتمع، وبعيداً عن الوظيفية لأنها تفسر الحياة والدين تفسيراً غائياً ومادياً، لأجل استمرار المجتمعات، ولا يعطي معنى؛ والفارق بينهما هو أن الغاية لها نهاية من المتوقع أن تصل إليه، أما الدين فله وظيفة تماماً كالسوسيولوجيا، وأيضاً له رموز بحاجة إلى تفسير معانيها، وهو غير مرتبط بغاية مادية، ولكنه مرتبط بغاية سامية عليا.
والتفكير الثالث هو التفكير الديني، وبعيدًا عن قانون الأحوال الثلاثة لـ»كونت» حول تطور التفكير، فإني هنا لست مبررًا أو مناقضًا للتفكير العلمي، ولكني أظن أن هناك حدودًا لا يستطيع العلم تفسيرها، وأن التفكير الإنساني ليس مجبورًا بأن يمر بمراحل ثلاث، ولكنه ينتقل ما بين التفكير الثلاثي، طبقًا للموقف المراد حله، فأذكر على سبيل المثال في «جائحة كورونا»، زادت نسبة الانتحار، خاصة عندما فشل العلم في التوصل إلى لقاح في بداية الجائحة، بسبب عدم الاستطاعة في تفسير سبب الجائحة، رغم التقدم العلمي، -انظر طارق القزق، التغييرات الاجتماعية الثقافية في الجمهورية التركية وتأثيرها في الشباب التركي: جيل حرف (ز) نموذجًا- ولهذا أقصد مرونة التفكير وليس التطور الخطي.
ولكي نفهم التدبير الإلهي، والقدر، والإشارات الإلهية علينا أن نفرق بينها؛ فالتدبير الإلهي: هو أن كل شيء يحدث لنا في الحياة خيره وشره مدبرًا بأمر الله وما عليك سوى التسليم لقضائه وتقديره، وتابعات هذا القدر مستمرة حتى مع انتهاء الحدث. والتدبير الإلهي فهو الطريق الذي نسير فيه عميانًا؛ فمنا من يسلك الطريق ويمن الله عليه بالنور فيطيب بصره؛ ومنا من يظل معطوب البصيرة.
الحكمة من قضاء الله وقدره هي تصحيح انحراف أقدامنا، لا الطريق، فالطريق هناك من يسلكه غيرنا، حينما ينسى الإنسان نفسه وروحه ويتعلق بما هو دون ذلك من مغريات الدنيا، وعندما نشعر بزهو النفس وكبرها، يأتي قدر الله ليجعلنا نعود مرة ثانية إلى أرواحنا، تلك ما أسميها «الصدمة الإيمانية».
كتب تولستوي عن هذه الحالة في أحد قصصه أن رجلًا يدعى «مارتن» توفيت زوجته ثم أراد أن يترك ولده الصغير، ولكنه فضل أن يبقى معه لتربيته ليكبر أمامه، ثم مات طفله الذي كان يريد تكريس حياته له، ولم تعد له الرغبة في الحياة، وأراد أن يموت، وأجاب تولستوي على لسان الشيخ في الرواية، لا يحق لك يا مارتن أن تقول كلامًا من هذا النوع، ليس لنا أن نحكم على طرق الله، وما يقدر وما يقرر هو مشيئة الله لا تفكيرنا نحن، فما دام الله قد شاء أن يموت ابنك وتبقى حيًا، لابد أن يكون ذلك هو الأفضل، أما اليأس الذي أنت فيه فدليل على أنك تعيش لسعادتك الشخصية..، ثم أجابه: أننا نعيش لله يا مارتن، عندما تعيش له يهون عليك كل شيء.
أما الإشارات الإلهية فهي الرسائل التي ترسل لنا عبر الرؤى المنامية، والرموز الحياتية التي نراها كل يوم. منا من ينصت لها ويستطيع تفسيرها، ومنا من لا يضع لها بالًا. وقدر الله هو نافذ لا راد لقضائه، إذا أراد الله أن يعلمك درسًا ليصحح انحراف قدمك!، أرسل عليك الحياة لتعلمك بتجاربها لتتأدب معها، ولتذكرك بعظمة الإله.