مرفت بخاري
الحرب لا تحتاج إلى تعريفات.
يكفي أن ترى صورة طفل يبكي تحت الركام لتفهم كل شيء.
يكفي أن تسمع شهقة أمٍ فقدت أولادها، لا لأنهم ماتوا، بل لأن أشلاءهم لم تعد تعرف شكلهم.
باتوا يحتضنون التراب، منها خُلقوا وإليها عادوا، لكنهم عادوا أشلاء.
ولا يليق هذا المشهد بإنسانيتنا، لذلك صرخت الإنسانية بألم.
قال الفيلسوف لاوتسه: «من ينتصر في الحرب، لا يعرف نفسه بعد».
وفي ضجيج الأيديولوجيا، تضيع الحقيقة، لأنها غالبًا ما تُكتب بحبر المنتصر وتُنسى دموع المغلوب.
لكنّ دمعة الإنسان لا تكذب. لا تحتاج إلى ترجمة.
وحدها تخبرك أن الحقيقة ليست في النشرات الإخبارية، بل في القلوب التي افتقرت إلى الحس الإنساني، وفي الضمائر التي عُبث بها لتقنعنا بأنها على صواب.
قال الفيلسوف الألماني كارل ماركس:
«الأيديولوجيا ليست فقط ما نؤمن به، بل هي وهم الحقيقة؛ هي الطريقة التي نخدع بها أنفسنا لنصدق أن ما نفعله هوالصواب».
المنتصر الحقيقي هو من يُنقذ روحًا لا من يُفنيها، هو من يوقظ العالم لا من يُسكت خصمه، هو من يعرف أن حدود الخريطة لا تعني شيئًا حين تنكسر إنسانيتنا أمام صورة واحدة:
رجلٌ يحتضن طفلته القتيلة، ولا يدري لمن يصرخ، ولا يعلم إن كانت أمّها ستعود من خلف الأنقاض، فتفجع مرتين، أم أنها قد سلّمت روحها، فرحمها الله من وجعه.
وهنا تومض حكمةٌ قديمة:
«من يخاف من العفريت، يظهر له».
ولعلّ خوف العدو الإسرائيلي من الضربات النووية جعله يراها رأيَ العين.
نحن الآن نتابع، بصمتٍ، تداعيات الغباء بأوجع صورة:
جهةٌ تتفاخر بقدرتها على محو طهران من الخارطة، وجهةٌ أخرى تعلم أن قوتها قد تمحو قارة بأكملها.
وهنا يسلّط التاريخ ضوءه على غياب الحكمة، واختفاء الإنسانية من كليهما.
أُناسٌ أسقطوا حق الله في الأرض، وتصارعوا على فتات سيادة، وبئس القوم الظالمين.
نعم، هم قومٌ ظالمون.. ظلموا شعوبهم، وماتت ضمائرهم، وتكفّنت بالخزي.
فكيف لمن سيبقى على قيد الحياة بعد هذه الحرب أن يثق بهم من جديد؟
سمعتُ سيدةً تجلس على الأرض تصرخ:
«يا رب موسى ويعقوب، أنقذنا»!
زلزل هذا الدعاء قلبي.
هم يدعون إلهنا، وأنبياؤهم هم أنبياؤنا.
نحن نؤمن بهم ونحبهم، فكلنا مسلمون، وإن اختلفنا في الشريعة، لكننا مسلمون لله الواحد القهّار.
ومع ذلك، حتى في الشريعة الواحدة نختلف.
السُّني والشيعي والإسماعيلي والصوفي.
قد يكون بعضهم أشد خطرًا على بعضٍ، متى تملكهم الشيطان وكانوا أولياءه.
كل هذه المشاهد، وهذه الأخبار التي تشعرنا بغصّة في القلب والحلق معًا، تضعنا أمام مفترق طرق:
كفتا ميزان لا تقبلان ثالثًا
إمّا إحقاق الحق ووقف التراشق بالصواريخ كما يتراشق الأطفال بالحجارة، وإما الهلاك، والإبادة، لكل ما اجتهدنا عليه من إعمارٍ وبناء.
عودوا إلى كتبكم السماوية.. راجعوا تعاليم دينكم.
قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45)
وقال أيضًا: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (البقرة: 194)
وفي حواره سبحانه مع الملائكة، إشارةٌ عظيمة: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 30).
دعونا نؤمن أن الكلمة قادرة، في زمنٍ مثل هذا، أن تصنع سلامًا صغيرًا في قلب من يقرأ.
وأن نعيد للدمع مكانته: كدليل على أننا لم نتحول بعد إلى حجارة.