عايض بن خالد المطيري
مع تسارع عقارب الزمن، وتبدّل الوجوه في مواقع القيادة، يبقى للوطن محطّات يقف فيها التاريخ احترامًا لرجالٍ لم يكتفوا بالإمساك بدفّة القيادة، بل غيّروا وجهتها نحو التقدّم الحقيقي. رجالٌ لا يتحدثون كثيرًا، لكنّ أفعالهم تروي سيرة منجز.
من بين هؤلاء، يسطع اسم أمير محبوب وقائد استثنائي، ترك بصماته بهدوء، وأعاد رسم معاني القيادة بمداد العمل لا بالحبر. رجل لا يعرف التكلّف، ولا يهاب التعقيد، يرى في المنصب أداةً لتبسيط العُقد، وتحويل التحديات إلى إنجازات تُرى وتُحسّ، لا شعارات تُقال وتُنسى.
من عسير، حيث بدأ مسؤولًا ثم نائبًا للأمير، ثم إلى القصيم التي أمضى فيها أكثر من عقدين من الزمن أميرًا وقائدًا لها، وصولًا إلى الرياض العاصمة، خطّ الأمير فيصل بن بندر بن عبدالعزيز مسيرته بثبات وعقلٍ مفتوح. تنقّل بين المهام لا طلبًا للترقي، بل لأنه رجل مشروع، يحمل في جعبته رؤية تنموية متكاملة تراعي الإنسان قبل البنيان، وتؤمن بأن التنمية ليست زخرفة شكلية، بل بناءٌ حقيقي ومستدام.
ففي القصيم على وجه الخصوص، تجلّت ملامح قيادته بوضوح. لم ينتظر التوجيهات، بل أطلق المبادرات، وأبرزها برنامج الأمير فيصل بن بندر للتنمية المجتمعية، الذي لم يكن نشاطًا شكليًا، بل ورشة وطنية لتحويل الشباب من عاطلين إلى طاقات منتجة.
ركّز البرنامج على التدريب النوعي في اللغة الإنجليزية والحاسب الآلي، ليكون جسرًا للاندماج في سوق عمل لا يرحم من يجهل أدوات العصر.
فما من ساحةٍ ولا زاويةٍ، ولا محافظةٍ أو مركزٍ في القصيم، إلا وتحمل في وجدانها أثرًا منه. شوارعها تروي، مرافقها تشهد، مؤسساتها تحفظ، وحتى مجالسها تهمس بإجماع: لقد مرّ من هنا رجلُ دولة.
أما دعمه للمشاريع الزراعية وللهوية فلم يكن شعاراتيًا، بل فعّالًا. أطلق جائزة الأمير فيصل بن بندر للنخيل، معززًا الاستثمار الزراعي، ومعيدًا الاعتبار للنخلة كرمز ورافد اقتصادي. ولم يغفل عن بناء القيم، فأسّس جائزة لحفظ القرآن الكريم للبنين والبنات، إيمانًا منه أن بناء العقول لا يكتمل دون بناء الأرواح.
في الجانب الأمني، سطر الأمير فيصل مواقف شجاعة يخلدها التاريخ في محاربة الإرهاب والتطرف، إذ لم يدّخر جهدًا في الوقوف سداً منيعًا أمام كل فكر هدام، إيمانًا منه بأن درء هذا الخطر واجب وطني لا يحتمل التأجيل، وأن أمن الوطن وسلامة أبنائه أمانة في عنقه.
من موقعي كصحافي في منطقة القصيم، عملت لسنوات طويلة بالقرب من الأمير فيصل. لا أتحدث هنا عن مسؤول رأيته من بعيد، بل عن رجل عايشته عن قرب لما يزيد على خمسة عشر عامًا. رجل لا يحب التصفيق الزائف ولا يطلبه، يهتم بأدق التفاصيل، يتابع ما يُكتب ويُنشر، يناقش، يستوضح، ويُقيّم. وإذا رأى أن طرحًا صحافيًا بحاجة إلى مراجعة، لم يلجأ إلى المكاتبات، بل يطلب الكاتب بنفسه، يناقشه، ويحل الإشكال من جذوره. لم يكن يعتبر الإعلام خصمًا ولا أداة تجميل، بل شريك فاعل في التنمية، ومسؤولًا عن نقل الواقع بصدق ومسؤولية.
شاهدته متواضعًا حين يتطلب التواضع، ومهيبًا حين تستوجب المواقف الهيبة. بسيطًا في لقاءاته، كريمًا في عطائه، مرحًا في مداخلاته. لا تُثقله المناصب، ولا يُربكه الضغط، لأنه ببساطة يعرف كيف يقود المشهد، لا كيف يُقاد إليه. عُرف بالفطنة والذكاء، وتميّز بذاكرة قوية نادرة. فقد يسأل الصحافي عند لقائه عن ملاحظة أو تفصيل في مادة نُشرت قبل أشهر، بينما يكون الصحافي قد نسيها، أما الأمير فيصل فلم ينسَ. من يعمل معه، يجب أن يكون دقيقًا في عمله وطرحه، لأن معايير الدقة عنده لا تعرف التهاون.
ومع انتقاله إلى إمارة الرياض عام 2015، لم يحمل معه مكتبه فقط، بل حمل تجربة وعي متراكمة، وحنكة قائد يدرك أن العاصمة ليست مدينة عادية، بل مركز الثقل السياسي والاقتصادي. جاء بأسلوب إدارة يجمع بين الصرامة والمرونة، وبين الرؤية والتفصيل، حتى أصبحت الرياض نموذجًا للتحول، والتنمية المستدامة التي لا تُقصي البيئة، ولا تُهمّش الإنسان.
واليوم، تمضي الرياض بخطى ثابتة نحو المستقبل، مدينة لا تنام، تحوّلت إلى ورشة عمل كبرى: مشاريع بنى تحتية، تحوّل رقمي، تحسين للخدمات، وحماية للهوية البيئية من خلال برامج مثل السياحة البيئية، التي ساهمت في ترسيخ الوعي بالمكان والموارد.
وفي ظل رؤية السعودية 2030، حيث تسابق السعودية الزمن لتكون في مصاف الدول العالمية، تصبح نماذج القيادة مثل الأمير فيصل بن بندر ضرورة وطنية، لا ترفًا إداريًا. فالرؤية تحتاج إلى من يُجيد قراءتها وتحويلها إلى واقع، لا من يرفع شعاراتها دون أن يفهمها.
الرسالة التي يتركها الأمير فيصل بن بندر لا تُكتب في نهاية تقرير، بل تُقرأ في تفاصيل الإنجاز: أن القيادة ليست رتبة، بل مسؤولية، والنجاح لا يُقاس بعدد الاجتماعات، ولا بكمية المناسبات، بل بأثرها. وأن الوطن لا يصنعه الكلام، بل رجال يعرفون متى يصمتون ليفعلوا، ومتى يتحدثون ليُقنعوا.
تلك هي الحكاية باختصار: حكاية رجل أدرك أن الوطن يستحق قادة من طينته، فأعطى، وأنجز، وترك أثرًا سيبقى في ذاكرة الوطن طويلًا.