د. جمال الراوي
جرت قبل مدة - في إحدى المدن- جريمة مروعة؛ إذ أقدم يافع، لا يتجاوز عمره الأربعة عشر عاماً، على طعن أبيه بسكين مطبخ حتى الموت، ثم فر واختبأ في إحدى الحدائق القريبة؛ فوجدوه بعد ثلاثة أيام وأودعوه السجن، ينتظرون بلوغه سن الثامنة عشرة، لينفذوا فيه القصاص العادل.. والغريب في الأمر أن هذا الأب كان يتفاخر -دائماً- أمام معارفه وأصدقائه بتفوق أبنائه في دراستهم!!.. ولا تزال دوافع الولد على قتل أبيه غير معروفة، وإن كان -على الأرجح- سببها الضغوط التي كان يمارسها الأب على ابنه حتى يكون متفوقاً في دراسته.
السلطة الأبوية أو Parental Authority من أقدم السلطات وأكثرها انتشاراً، بدأت منذ بدء الخليقة، ولا تزال لها آثارها الواسعة على تركيبة الأسر والمجتمعات، وقد سخر الله تعالى الأولاد والزوجة وجميع أفراد العائلة ليعيشوا تحت هذه السلطة، التي يعرفها علماء الاجتماع على أنها القوة التي يمارسها الأب على بقية أفراد أسرته؛ فينفذون جميع ما يصدر منه من أوامر وإيعازات بقصد تنظيم شؤون الأسرة، وهي «القوامة» التي أعطاها الله تعالى للأب؛ لأنها مسؤولية يحاسب عليها يوم القيامة.
ويمكن القول بأن السلطة الأبوية -داخل الأسرة- ديكتاتورية تشبه إلى حد كبير ديكتاتورية الرؤساء والمديرين؛ تكاد تكون أكثر منها شمولاً، رغم قلة الأفراد المشمولين بها، وصغر المكان الذي يمارس فيه الأب سلطته، وهي أخطر ديكتاتورية، وأشدها أثراً؛ لأنها قريبة وسريعة التأثير على الأبناء وبقية أفراد الأسرة.. مع العلم بأن جميع الديكتاتوريات مرفوضة ومستهجنة من قبل الناس؛ إلا أن ديكتاتورية الأب معترف بها، تضمنها القوانين والعادات وتقاليد المجتمع، وقبل ذلك تدعو لها جميع الشرائع والأديان الوضعية والسماوية.
ولا يوجد أي خلاف أو اختلاف لدى معظم البشر على حق الأب في ممارسة هذه السلطة الأبوية؛ لأنها بمثابة رعاية واهتمام بالأبناء، وتوجيه لدفة سفينة الأسرة. ولكن يبقى الخلاف على قدرة أو كفاءة الأب على تولي مسؤوليات هذه السلطة؛ لأنه ليس كل الرجال يصلحون أن يكونوا آباءً، ولأن كثيراً منهم يفتقدون المقومات التي تؤهلهم لتولي هذه المهمة العظيمة.
يلاحظ -في مجتمعات اليوم- أن الأم تساهم إلى حد بعيد في إفراغ السلطة الأبوية من مفهومها العاطفي، وإعطائها الصفة السلطوية، فهي تهدد -دائماً- أبناءها بالقول بأنها ستخبر أباهم عما يقترفونه من شقاوة في البيت حتى يؤدبهم؛ فتترسخ لدى الأولاد نمطية الأب السلطوي الذي يلعب دور شرطي أو رجل أمن للحفاظ على النظام في البيت؛ فيصبح الأب بمثابة سلاح تستعمله الأم ضد أبنائها دون قصد منها؛ فتنمو الروح السلطوية الأبوية لدى الأب الذي يصبح أباً سلطوياً.
وبالمقابل؛ نجد ظاهرة أخرى أكثر سوءاً من الأب المتسلط، هي الأب غير المبالي، حيث يكون فيها الأب عاجزاً عن القيام بدوره في تحمل المسؤولية في البيت، بسبب عجزه وعدم كفاءته؛ فيدرك الأولاد هذه الصفة عند أبيهم، وبما أنهم بحاجة للسلطة الأبوية؛ فإنهم يبحثون عنها، ويجدونها عند الأم التي تأخذ دور الأب؛ فيتجاوز الأبناء أباهم في كل طلباتهم واستشاراتهم؛ فتنحرف سفينة الأسرة مرة أخرى، وقد تغرق، بسبب وجود قبطان لا يملك الغريزة والكفاءة لقيادتها، وكثيراً ما تنتج عن هذه الحالة حالات تمرد وشذوذ لدى الأولاد. ونلاحظ أشكالاً مختلفة عن الآباء؛ فنجد الأب السيئ والعابث، أو المدمن على المحرمات، أو الأب كثير الغياب عن البيت بسبب سفره الدائم أو بسبب طبيعة عمله، وأخطرهم هو الأب العظامي المتعجرف، وهي صفة ملازمة للأب الشرقي، الذي يحمل غيرة مبالغاً فيها على أسرته، تترافق مع شكوك دائمة؛ فيضع جميع أفراد الأسرة في حالة من التوتر الشديد؛ فيلجأ الأولاد إلى المداهنة والمداورة لتجاوز صفة العظامية عند أبيهم، وقد تتسم حياتهم بالكذب والغش، والحيلة والهروب والتخفي لتجاوز هذه السلطة الأبوية القاهرة!!
أحدث «سيجموند فرويد» مفهوماً غريباً في علم النفس، استوحاه من أسطورة أوديب الإغريقية، وسماها «عقدة أوديب» Oedipus complex، تتحدث الأسطورة عن ملك، قال له العرافون إن زوجته ستلد ابناً سوف يكبر، ومن ثم سيقتله، ويتزوج من زوجته التي هي أم الولد، وهذا ما حدث مع «أوديب»، الذي رماه أبوه في البراري، ثم عاد -لاحقاً- إلى مملكة أبيه؛ فحارب أباه، دون أن يعرف أنه أبوه، ثم قتل أباه، وتزوج من زوجته التي هي أمه، وأنجب منها طفلة، وبعد أن عرفت أمه الحقيقة، شنقت نفسها، أما «أوديب»؛ فقد فقأ عينيه، وغادر مع ابنته التي ولدتها أمه، وهام في البراري ليعيش بقية حياته في البؤس.
يقول «سيجموند فرويد» إن الولد الذكر يبدأ في استكشاف أعضائه التناسلية ما بين عمر 3 - 6 سنوات، ويصبح في هذا العمر قادراً على معرفة الفوارق العضوية والجنسية بين الذكر والأنثى؛ فتنشأ لديه حالة من الغيرة على أمه من أبيه، ثم تتنامى هذه العقدة الأوديبية، التي تختفي لاحقاً، والاضطرابات الأسرية قد تؤجج هذه العقدة، خاصةً إذا كان الأب قاسياً مع الأم؛ فتبقى هذه العقدة ملازمة للولد الذكر، الذي يريد -في اللاشعور- دفع الظلم عن أمه بزيادة العداوة لأبيه؛ فيحتفظ في داخله كرهاً وحقداً وغيظاً متنامياً ضد أبيه، مما يؤدي إلى صراع داخلي، قد ينفجر في لحظة ما، وينتج عنه ما لا تحمد عقباه.
لا شك بأن عقدة أوديب التي تحدث عنها «فرويد»، أخذت مفهوماً جنسياً؛ فتم رفضها من قبل كثير من المحللين النفسيين، وحاربتها جميع الأديان، واعتبروها إسفافاً عن الطبيعة البشرية وانحرافاً عن الغريزة السليمة؛ فأجريت عليها تعديلات لاحقة، لكنها بقيت نظرية تدرس في علم التحليل النفسي، وتم إزالة العامل الجنسي والصراع بين الأب وولده، وبقيت غيرة الولد على أمه من أبيه بدافع الحرص والخوف عليها، وهذا ما قد تستغله الأم عند اختلافها مع الأب؛ فتوظف غيرة ابنها عليها لصالحها؛ بقصد الإساءة للأب، وقد تدفع الابن للصراع مع أبيه ومعاداته.
وفي المقابل؛ يقول بعض المربين إن الصراع بين الأب وولده؛ منشؤه اختلاف البيئة والزمان اللذين عاشا فيهما، وهناك مقولة تنسب زوراً وبهتاناً إلى الصحابي الكريم علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- التي تدعي بأنه قال: «لا تحملوا أولادكم على أخلاقكم؛ فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم»؛ بينما هي مقولة منسوبة إلى «سقراط»، وهي مقولة لا تصح في منظومة الأخلاق التي يتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد؛ فجميع الناس يتأدبون بأخلاق السلف، ويأخذون بهديهم، وقد تصح -في حالة واحدة- عند اختلاف الأعراف والعادات بين زمان الأب والولد، حينها لا يجوز أن يجبر الأب ابنه على عرف تربى عليه؛ خاصة إذا جاء زمان الولد بعرف آخر يلغي عرف الأب وجيله، ولم يعد له أتباع كما كان الحال في عهد الأب، وهذا ما نلاحظه في كثير من الصراعات بين الاثنين، حيث يصف الأولاد آباءهم بأنهم «دقة قديمة» تجاوزتهم الحضارة والمدنية الحديثة.
في حقيقة الأمر؛ قد تصطدم السلطة الأبوية مع ولد سيئ، إذ لا يعقل أن يتهم الأب بأن ممارساته الخاطئة لسلطته الأبوية كانت سبباً لشذوذ ولده، وهذا -ما يقوله الأولاد- الذين يعزون إخفاقهم إلى عدم كفاءة آبائهم، وإلى سوء توجيههم، وقلة خبرتهم، وفقدانهم للمحاكمة العقلية السليمة، وإلى عدم فهمهم لحاجيات أبنائهم، بينما قد يكون السوء في الولد نفسه؛ لأن تركيبته البنيوية والعاطفية شاذة، ولأنه يميل إلى رفض هذه السلطة الأبوية، أو لأنه يخضع لها على مضض؛ فيضطر للمحايلة والغدر، كلما حانت له الفرصة لذلك؛ فتصبح حياته مليئة بالكذب وقلة الوفاء، وقد يصبح مع مرور الأيام ولداً عاقاً يفتقد إلى كل صفات المروءة والشهامة؛ فيقع في مطبات كثيرة وعثرات لا متناهية، وإذا لازمته هذه الصفات -عمراً طويلاً- ولم يصحح المسار، ويغير طبيعته، يصبح رجلاً فاشلاً، ويلازمه عدم التوفيق، ويصبح الفشل -في حياته- صفةً واسمة له؛ فيعيش عمره في تعاسة وشقاء، يبحث عن السعادة والأمن والأمان فلا يجدهما؛ فتراه بذيء اللسان وكثير الشكوى، تزيده الابتلاءات سوءاً، التي تفضحه وتكشف عن حقد دفين، وطبيعة ناقمة ومعقدة؛ فيلجأ للتنفيس عن مكنونات نفسه إلى الإيذاء اللفظي بحق أبيه وأمه، يتهمهما بأنهما سبب شقائه وعذابه، وأنهما ظلماه ودفعاه لأن يأخذ هذا المسار العدواني ضدهما، يقول -دائماً- بأنهما لا يصلحان أن يكونا أبوين صالحين.
وبالعودة إلى ما فعله ذلك الشقي اليافع، الذي أقدم على قتل أبيه، وهي لا شك ليست حالة نادرة؛ لأننا -كثيراً- ما نسمع عن مثل هذه الجرائم المروعة، هي حالة مركبة؛ لأن الأب قد يقف بالمرصاد لأولاده، يدفعهم -بقوة- حتى ينجحوا في دراستهم وحياتهم المستقبلية، لا يدري أن أولاده، أو واحداً منهم يرفض هذه السلطة الأبوية القاهرة، يجدها عقبة أو عثرة أمامه؛ فيدفعه شيطانه للتمرد عليها، وقد تفضي الأمور إلى هذه النتيجة الكارثية، وهي -للأسف- حالة من الصراع المستديم، الذي بدأ منذ بداية الخليقة، ولن ينتهي إلا بانتهائها، وستبقى هذه المعضلة غير قابلة للحل!!
والغريب؛ أن بعض الأبناء لا يقبلون بهذه السلطة الأبوية ولا يعترفون بها إلا عندما يبلغون الأربعين من أعمارهم، حينها يشعرون بأن أوان التصحيح قد فات، وكثيراً ما يعود هؤلاء الأبناء إلى ممارسة هذه السلطة الأبوية ضد أبنائهم بطريقة أكثر تسلطاً وإجحافاً؛ ليجدوا أبناءهم ردوا لهم الدين مضاعفاً، وقد يكون أضعاف ما فعلوه مع آبائهم!!