ناصر زيدان التميمي
الخوف لا يمنعك من الموت، لكنه يمنعك من الحياة. هذه الحقيقة كثيرًا ما تغيب عن القلوب التي أرهقها القلق، وأعياها التردد، وسجنتها الهواجس. يخاف الإنسان من المرض، فيحبس نفسه عن الخروج. يخاف من الفقر، فيبخل ويمنع يده عن العطاء. يخاف من الفشل، فيتراجع عن المحاولة. يخاف من كلام الناس، فيكتم مواهبه، ويقمع طموحه، ويقتل أحلامه بيديه. يخاف من الموت، فيموت حيًّا وهو لا يشعر. لكنه لا يدري أن الموت قادم لا محالة، سواء خافه أو لم يخفه، استعد له أم لم يستعد، فالله سبحانه وتعالى قال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}. فالموت حق، لا يدفعه حذر، ولا يرده قلق، ولا يستعجله أمن ولا خوف، وإنما هو موعد مكتوب، لا يتقدم ولا يتأخر، بيد الله وحده لا بيد المخلوقين.
فلماذا يُهدر الإنسان حياته في الخوف؟ ولماذا يظن أن القلق سيمنحه أمانًا، أو يؤجل قدرًا؟
إن المؤمن يعلم أن حياته بيد الله، وأن رزقه وأجله لا ينقص منهما شيء إلا بإذنه. ومن أصدق من الله قيلاً؟ لقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم في غار ثور، والموت يتربص به، والأعداء يطوّقونه، ومع ذلك قال لصاحبه: «لا تحزن إن الله معنا». كلمات ليست من باب المواساة العاطفية، بل من باب اليقين الراسخ، والثقة المطلقة، والطمأنينة التي لا تهتز. علّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نواجه الحياة بالإيمان، لا بالخوف، وأن نسير في دروبنا متوكلين، لا مترددين، وأن نعلم أن الله معنا ما دمنا معه.
التوكل لا يعني الغفلة، بل هو العمل مع الثقة، والحركة مع الطمأنينة، والسعي مع الإيمان بأن ما عند الله خير وأبقى. فالطير تغدو جائعة، وتعود شبعى، لأنها سعت، وأخذت بالأسباب، ولم تحبس نفسها في أعشاشها تنتظر رزقًا لا يُطلب. كذلك الإنسان، إذا خاف حتى من أول خطوة، فلن يتحرك أبدًا، وإذا عاش أسيرًا لتخوفاته، فلن يعرف طعم الحياة، ولن يشعر بنورها ولا دفئها. كم من حلم وئد في مهده خوفًا من الفشل، وكم من زواج لم يتم خوفًا من المجهول، وكم من باب خير أُغلق لأن صاحبه خشي من العواقب التي لم تقع، وربما لن تقع أبدًا.
الإسلام لا يذم الخوف الطبيعي، لكنه ينهى عن الخوف المفرط الذي يمنع الإنسان من الطاعة والعمل، ويحبسه عن الطموح والنمو، ويقعده عن الحياة. لقد خاف الأنبياء، وخاف الصحابة، لكنهم لم يستسلموا للخوف، بل حوّلوه إلى دافع للعمل، وزاد للتقوى، وسُلَّمٍ للصعود. أما من استسلم لخوفه، فقد عاش ميتًا وإن تنفَّس، وسار في الأرض بجسد لا روح فيه. إن الحياة لا تُعاش في الظل، ولا تُبنى في الزوايا المظلمة، ولا تُمنح للمترددين، بل لمن يملكون قلبًا عامرًا بالإيمان، ونفسًا مطمئنة، وعقلاً يعرف أن الله لا يُضيع من توكل عليه.
ما أجمل أن تعيش مطمئنًا، تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن رزقك وأجلك وسعادتك كلها عند الله، لا عند الناس، ولا في الظروف. فامضِ في طريقك، وابدأ مشروعك، واطلب علمك، وارتبط بمن تحب بالحلال، وهاجر، واصنع، وقل: اللهم إني توكلت عليك، وفوّضت أمري إليك، ولا حول ولا قوة إلا بك. فإن جاءك الموت، جاءك وأنت على الطريق، راضٍ بالله، واثق بقدره، عاملٌ لأخراك، لا نادم على لحظات ضيَّعتها في الخوف، ولا باكٍ على عمرٍ قضيتَه في التردد.
عِش كما أمرك الله، واسعَ كما أمرك نبيُّه، وارضَ كما علّمتك فطرتك، فإن الحياة قصيرة، والموت لا يستأذن، وما بينهما هو فرصتك الوحيدة لتكون عبدًا لله بحق، وحيًّا بحق، وسعيدًا بحق. لا تدع الخوف يسرق منك هذه الفرصة.