د.نادية هناوي
إن لثنائية العقل والعاطفة أبعاداً وظيفية في النظرية الأدبية، تتجاذبُ طرفيها مذاهبُ واتجاهات نقدية فنية وأيديولوجية مختلفة. وما بين النظرة الكلاسيكية للأدب التي ترى العقل حاكماً على العاطفة وبين النظرة الرومانسية التي ترى للعاطفة في الأدب جماليات خاصة، تأتي النظرة ما بعد الحداثية لتضع لهذه الثنائية احتمالات خاصة، معها يصبح كل من العقل والعاطفة حاضرين في ميزان المنازعة أو الغلبة، لا كطرفين في معادلة وإنما كمعادلة لا يخضع طرفاها للمقايسة، وما من مزايدة على واحد منهما تفضي إلى تحجيم الآخر. ولا يعني هذا التعادل أن تتوازن كفتاهما أو أن ينفصل أحدهما عن الآخر بقدر ما يعني أن استقلال العقل لا يقدح بقيمة العاطفة والعكس صحيح.
وما من غرابة في هذا التفاوت بتقدير دور العاطفة أو العقل في الأدب، فمنذ القدم والفكر الإنساني يضع للعاطفة مكانة خاصة بوصفها حجر الأساس الذي عليه تقوم الآداب والفنون لكن من دون إطلاق العنان للعاطفة. إذ لا بد للعقل من أن يكون حاضراً بشكل أو بآخر، فتتأكد الغاية الأخلاقية من وراء صناعة الفن والأدب والاستمتاع بهما.
وما من نصٍّ أدبي يوصف بأنه إنساني إلا وللعاطفة دورها وللعقل فاعليته، وتتفاوت نسب الأدوار والفاعليات تبعاً لطبيعة الأغراض المتوخاة من وراء النص الأدبي. وما من إشكالية في هذا كله، بل إن ثنائية العقل والعاطفة في الأدب صارت من كثرة التناول والاهتمام واحدة من بديهيات النظرية الأدبية ومسلّمات الفعل النقدي. بيد أن للتطور المتسارع في التكنولوجيا الرقمية دوراً في أن تعود هذه الثنائية إلى واجهة الاهتمام مجدداً بوصفها إشكالية ينطوي عليها المنتج الرقمي بوساطة الآلات الذكية، إذ إن ما ينقص هذا المنتج ليس البعد العقلي إنما هو البعد العاطفي الذي ينبغي أن يرافقه دوماً وبغض النظر عن نسبة وميزة وسمات هذا الترافق كثنائية لا بد منها سواء أكان المنتج بشرياً أم إلكترونياً.
ومن الدراسات المعنية بالبحث في هذه الثنائية من زاوية تقنيات الذكاء الاصطناعي دراسة كاثرين ديغنازيو ولورين كلاين الموسومة (الثنائية الزائفة بين العقل والعاطفة في تصور البيانات). وفيها تسعى الباحثتان إلى تفنيد الاعتقاد القائل بأن العقل والعاطفة قوتان منفصلتان ومتناقضتان في المنتج الرقمي عامة والبيانات المصورة بشكل مرئي خاصة. وغايتهما إثبات أن كل طرف من هذه الثنائية هو عنصر رئيس وقائم بذاته في فهم البيانات وتمثيلها بشكل فعَّال. ومن ثم لا يعود العقل والعاطفة ثنائية، تتفاوت نسبة تمثيلهما داخل المنتج الرقمي، بل هذه الثنائية زائفة ومن المهم أن يتفاعل كل عنصر مع الآخر تفاعلاً إيجابياً. ولكن ما موقع الزيف من هذا التفاعل؟ أهو كامن في طريقة تنظيم البيانات الرقمية وعرضها أم هو متعلق بطبيعة التكنيكات الفنية التي يوظفها الذكاء الاصطناعي في الإنتاج الرقمي؟ وكيف يمكن للعاطفة أن تتواجد والجهد المبذول هو بالعموم عقلي محض؟
قد يبدو صادماً ما تراه الباحثتان من أنَّ البيانات الرقمية تشتمل على العواطف جنباً إلى جنب العقل مما يؤثِّر تأثيراً كبيراً في تفسير تلك البيانات وعرضها واستهلاكها. ودليلهما على ذلك هو أن هذه البيانات تثير المشاعر لدى الجمهور وتحملهم على الفهم والاستجابة بردود أفعال عاطفية معينة، غير أن من الثابت أن أي منتج مرئي أو مقروء أو مسموع - سواء أكان أدبياً أو غير أدبي، رقمياً أو غير رقمي- لا بد أن يترك أثراً ولكن ليس شرطاً أن يكون هذا الأثر عاطفياً، فالمنتج العلمي يقتضي استجابة ذهنية تترك أثراً عقلياً يُقاس بحسابات المنطق وحيثيات النظر العقلاني في حين أن المنتج الأدبي يقتضي استجابة نفسية ويترك أثراً شعورياً أو لا شعورياً بحسب بنية الذات المتلقية وتحيزاتها والخلفيات التي شكَّلتها والتي لها صلة بالعرق والجنس والطبقة ..وما إلى ذلك.
عموماً لم تتطرق الباحثتان إلى مسائل الذات والشعور النفسي إلا في إطار إحصائي يجعل النظر المعياري إلى العاطفة كالنظر إلى العقل. وهذا برأيهما يلغي التحيز الذكوري للعقل والتحيز الأنثوي للعاطفة، ويجعل العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والنسوية عقلانية شمولية وموضوعية ديناميكية. فيتحفز التفكير في القضايا الاجتماعية بعيداً عن ثنائية العقل والعاطفة ومن دون أي فصل صارم بينهما في تمثيل الواقع.
وما من شك في أن إنتاج الأدب بأجناسه وأنواعه يختلف عن الإنتاج الابستمولوجي للمعارف العلمية، ففي المنتج الأدبي يتنحى العقل فتظهر العواطف بعكس المنتج العلمي الذي فيه تتنحى العواطف ليظهر العقل مجرداً في صور مختلفة منها مثلاً الإحصاء، الموضوعية الصارمة، الحيادية، العقلانية. أما ما تنتجه بيانات الذكاء الاصطناعي، فإن فيها يتساوى المنتج الأدبي مع المنتج المعرفي من زاوية محددة وهي خلوهما من العاطفة واستحكام العقل والمنطق على عمل تلك البيانات. وهذه منقصة كبيرة تُؤخذ على النصوص الأدبية التي تنتجها بيانات الذكاء الاصطناعي؛ فهذه النصوص هي في حدها الأدنى البصري عبارة عن منتجات عقلية بحتة.
ولو افترضنا وجود العاطفة في النص الأدبي المنتج بالذكاء الاصطناعي، فإن ذلك سيكون وبالاً عليه حتماً، لأن العواطف ستخلخل أنظمة البيانات وستفتك بآليات عملها القائمة على منطق التزييف العميق وتجعله من ثم فوضوياً مضلِّلاً. وغياب العاطفة وتمركز العقل هو ما تجده الباحثتان إيجابيا، لأنه يزيل الفوارق بين ما يكتبه كل من المرأة والرجل، ويجعل المساواة حاصلة بينهما، وبالشكل الذي يعارض الاعتقاد الشائع القائل إن النساء أكثر عاطفة من الرجال وأن الرجال أكثر عقلانية من النساء. ومن ثم يكون المنتج بطريقة الذكاء الاصطناعي هو وحده القادر على خرق الصورة النمطية للمرأة وهو الحائل أيضاً دون أن تكون للمنتج الرقمي عواطف عنيفة كالغضب والرعب، تصنف على أنها ذكورية وتؤدي إلى نتائج غير مرجوة.
إن هذه النظرة الانتقاصية للعواطف لا تأتي عن نزعة أخلاقية كما أنها لا تدافع عن النسوية بقدر ما تدافع عن المنتج الأدبي بالذكاء الاصطناعي. وبدلاً من أن تسعى الباحثتان إلى سحب الدراسة نحو منطقة العواطف بوصفها سمة لصيقة بالنسوية، فإنهما تسحبان النسوية إلى منطقة العقل، لتتساوى مع الذكورية في الاستغناء عن المشاعر العاطفية والتمسك بالعقلانية والموضوعية. وفي هذا تخلٍ أكيد عن الهبة التي وهبتها الطبيعة للمرأة وجعلت منها قانونا من قوانين تميزها وتفردها والمتمثلة بالأمومية التي لا تستطيع الذكورية مناصفتها فيها. ولذلك كان انقلاب الذكورية عليها عنيفا بشكل نظامي مقصود وبمسارات صارمة وصادمة. الأمر الذي جعل الهيمنة عبر التاريخ محسوبة لصالح النظام الذكوري، ومعه تغلبت البطرياركية وغابت إلى الأبد الأمومية.