د. يعقوب آلويمين
أشاد القاصي والداني - وكلهم على حق- بنجاح موسم الحج للعام 1446، الذي تميز أكثر من ذي قبل بدقة التنظيم وانسيابية التفويج وأريحية المشاعر. وقد كانت النتائج مبهرة: جودة عالية في الخدمات وتراجعاً قياسياً في الحالات الصحية وتقدماً كبيراً في طرق وفاعلية وسرعة علاجها، بفضل توفير كافة الوسائل البشرية والمادية، خاصة تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، المسيرات الناقلة للمستلزمات الطبية، التحكم في الحرارة، الاتصالات ...إلخ؛ ما حوّل رحلة الحج إلى نزهة إيمانية مفيدة روحياً، مريحة بدنياً، ممتعة نفسياً.
المستوى الذي وصل إليه تنظيم الحج لهذه السنة يدخل في سياق النسق التطوري الذي تسير عليه المملكة العربية السعودية بصفة عامة، وفقاً لرؤية 2030، ويدخل ضمن أدوارها المتعددة في خدمة المسلمين.
وهنا الشيء بالشيء يذكر؛ ليست خدمات الحج وحدها، على جلالتها وقدرها، هي كل تقدمه المملكة العربية السعودية للأمة الإسلامية.
فلقد لبت المملكة العربية السعودية نداء الأمة الإسلامية عند كل استغاثة.
وهنا نستحضر نموذجا آخر - مثالاً لا حصراً- خدمة أخرى جليلة قدمتها المملكة العربية السعودية للعالم الإسلامي، وهي جمعه في إطار مؤسسي دولي للتعاون والتضامن، ألا وهو منظمة التعاون الإسلامي التي تحتضن المملكة مقرها وأهم مؤسساتها.
لقد كان إنشاء منظمة التعاون الإسلامي استجابة مباشرة وسريعة لصرخات القدس الشريف التي وصلت ذروتها جراء الحريق الذي أضرمه متطرف يهودي في المسجد الأقصى سنة 1969. فكانت قمة الرباط التي عقدت بجهود من المملكة العربية السعودية منطلقاً لميلاد كيان دولي يجمع قيادات العالم الإسلامي ويوحّد شعوبه ويدافع عن مصالحهم أينما كانوا، في فترة تميزت بمعاناة بعض الدول الإسلامية من ويلات الاستعمار وتشرذم الدول الإسلامية المستقلة بين معسكرات شرقية وغربية تتصارع للاستحواذ على خيراتها، وهيمنة أيديولوجيات التي لم تزد الأمة الإسلامية إلا انقساماً وتمذهباً وابتعاداً على المنبع الإسلامي الأصلي.
أدركت المملكة العربية السعودية، من منطلق مكانتها كمركز تهوي إليه أفئدة المسلمين، ضرورة تقوية اللحمة الإسلامية لتكون الأمة قادرة على التصدي لتحديات تلك الفترة، فعملت منذ السنوات الأولى لميلاد المنظمة على تأسيس التعاون الإسلامي الوليد على ثلاثة أركان أساسية هي الوحدة الفقهية والتضامن الإسلامي والتعاون المالي.
ولتحقيق الوحدة الفقهية، احتضنت المملكة العربية السعودية مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي منذ تأسيسه سنة 1981، حيث يعمل، من خلال التكامل المعرفي بين فقهاء المذاهب الإسلامية المختصين في مختلف مجالات المعرفة، على بيان الموقف الشرعي من مشكلات الحياة المعاصرة التي تهم المسلمين، وهو ما سمح بتحقيق الوحدة الفقهية في أهم تلك القضايا وتفادي الخلافات وما قد يترتب عليه من انقسامات في الأمة.
ولتكريس التضامن الإسلامي، أنشأت منظمة التعاون الإسلامي صندوق التضامن الإسلامي سنة 1974 الذي تحتضنه المملكة العربية السعودية أيضاً. وهو ثمرة من ثمار زيارة الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز لدول غرب إفريقيا سنة 1966، التي وضع على أثرها سياسة التضامن الإسلامي لخدمة الإسلام والمسلمين. وهذا التضامن الإسلامي الذي ينفذه الصندوق عبارة عن وعاء يستوعب كافة أنواع المساعدة والمواساة، وتمتد خدماته إلى جميع المسلمين بشكل مباشر في جميع أنحاء العالم.
ولأن التعاون المالي يشكِّل أهم أدوات تقوية اللحمة وتجسيد التضامن وتبادل المصالح بين الدول والمجتمعات، تحتضن المملكة العربية السعودية البنك الإسلامي للتنمية منذ إنشائه سنة 1975 في مدينة جدة، وهي أكبر مساهم فيه. ويعمل على إقامة تعاون مالي إسلامي متعدد الأطراف، هدفه تعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية في البلدان والمجتمعات الإسلامية.
وإضافة للأركان الثلاثة الثابتة التي يجتمع حولها العالم الإسلامي منذ تأسيس منظمة التعاون الإسلامي، كانت المملكة جاهزة في جميع الأوقات لتلبية النداء الإسلامي كلما تعالت نداءات الأمة أو ظهرت تحديات تهددها، لتجمع قادة العالم الإسلامي من أجل اتخاذ ما تقتضيه كل مرحلة. والأمثلة متعددة على تلك القمم الإسلامية الخالدة، لعلنا نرد الجميل باستذكار نماذج منها.
فبعد مسيرة خمس وثلاثين سنة من العمل الإسلامي المشترك بقيادة المملكة في إطار التعاون الإسلامي، وظهور تحديات الألفية الثالثة، وعلى رأسها تحدي الإرهاب والتطرف الذي حاول المرجفون ربطه بالبلدان المسلمة، رغم أنها أكثر من اكتوى بناره، وتشكّل معالم ما بعد الحرب الباردة، بادرت المملكة العربية السعودية سنة 2005 بجمع قادة العالم الإسلامي في قمة مكة المكرمة التي أصدرت «بلاغ مكة المكرمة» الذي كان بمثابة إعلان كلمة سواء توحّد العالم الإسلامي وتحدد موقفه من التحديات الجديدة.
وعندما بات العالم الإسلامي مهدداً بالتشتت والتنافر واستفحال العداء بين المسلمين أنفسهم؛ واستشعاراً لواجبها نحو الأمة الإسلامية، بادرت المملكة العربية السعودية بالدعوة للمِّ الشمل خلال قمة مكة المكرمة سنة 2012 التي وضعت وثيقة «ميثاق مكة المكرمة»، الذي كان بدوره بمثابة دستور يحدد عوامل التوحّد في مواجهة محاولات شق الصف الإسلامي، وآليات درء الفتنة، وأسس بناء القدرات الإسلامية.
وحينما استنجدت فلسطين من جديد بسبب المجازر الإسرائيلية في غزة وتصاعد العدوان في بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة لبت المملكة العربية السعودية النداء وبادرت بعقد قمة عربية إسلامية أولى سنة 2023، ثم ثانية سنة 2024. وما زالت مخرجات تينك القمتين متجلية في الحراك الدولي بقيادة المملكة، الهادف إلى فرض حل الدولتين، وفي الوعي الدولي بعدالة القضية الفلسطينية، وتتابع الاعتراف الدولي بفلسطين، وتضييق الخناق السياسي والديبلوماسي على المحتل الإسرائيلي الظالم.
تلك قبسات، لمن لا يعرف من أيادي المملكة العربية السعودية البيضاء على الإسلام والمسلمين سوى خدمات الحج. وهذه القبسات ليست سوى غيض من فيض. ويمكن لمن يرغب أن يزداد أن يسائل رابطة العالم الإسلامي عن العمل الذي تضطلع به منذ إنشائها سنة 1962 لخدمة المسلمين في كافة أصقاع الأرض؛ ويسائل المسلمين في الصومال وأفغانستان والبوسنة وإفريقيا عمَّا يقوم به مركز الملك سلمان للأعمال الإغاثية في خدمتهم؛ وأن يطالع «وثيقة مكة المكرمة» التي أصدرها علماء الطوائف المذهبية العراقية سنة 2006، برعاية المملكة العربية السعودية، أيام ذروة الخلافات والصراعات، من أجل حقن الدماء، وإيقاف الحرب الطائفية، ووقف أعمال العنف التي طالت المساجد ودور العلم والعبادة.. والأمثلة أكثر من أن تُحصى في عجالة.
** **
الأمانة العامة لمنظمة التعاون الإسلامي - جدة