د.عبدالعزيز عبدالله الأسمري
يثير الحديث عن إخفاء إيران 40 كيلوغرامًا من اليورانيوم عالي التخصيب قبل الضربات الجوية الأخيرة جدلًا واسع النطاق، كونه جزءا من لعبة استخباراتية معقدة يصعب تفكيكها من منظور عسكري بحت. فإيران، بخبرتها التاريخية في إدارة الأزمات الكبرى، لا يمكن أن تترك هذه الكمية الحساسة من المواد الانشطارية مكشوفة في منشآت تدرك تمامًا أنها مستهدفة على مدار الساعة عبر الأقمار الاصطناعية والطائرات المسيرة وعمليات التتبع الإلكتروني. إن استيعاب إيران لعمق التهديدات جعلها ومنذ سنوات تتبنى عقيدة تقوم على توزيع أماكن مخزونها النووي وتبني خطط طوارئ لذلك، شملت على إخفاء المواد الأكثر حساسية في منشآت سرية أو في اعماق الأرض، بعيدة عن أي ضربة جوية مفاجئة.
لقد اشارت التقارير الاستخباراتية الغربية إلى أن الضربات الأخيرة على منشآت التخصيب الإيرانية ربما عطلت البنية التحتية مؤقتًا، لكنها لم تدمر جميع الكميات القابلة للاستخدام، وهو ما يعني أن جزءًا من اليورانيوم عالي التخصيب كان على الأرجح قد نُقل أو جرى إخفاؤه قبل أيام من الضربة، وذلك وفقًا لمؤشرات رصد لحركة غير معتادة لشاحنات ومعدات ثقيلة قرب مجمعات مثل فوردو ونطنز وأصفهان. بل إن بعض المصادر الاستخباراتية أشارت إلى وجود منشآت أكثر سرية مثل جبل الفأس قرب نطنز، الذي يُعتقد أنه يحتوي على غرف تخزين حصينة جرى تجهيزها تحديدًا لهذا النوع من السيناريوهات.
وبالنظر لخبرات إيران الهندسية والأمنية التراكمية منذ الثمانينيات، فإن من غير المنطقي تمامًا الاعتقاد أنها ستترك المواد القابلة للاستخدام في موضع يمكن القضاء عليه في غارة واحدة، وهذا هو ما يفسر حالة القلق المستمر لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي عبّرت عن عجزها عن التحقق ميدانيًا حتى الآن من مكان هذه الكميات.
الأهم هنا أن امتلاك 40 كيلوغرامًا من يورانيوم مخصب بنسبة 60 % قد يمنح إيران ورقة تفاوضية قوية، كونها تقترب تقنيًا من العتبة النووية وتستطيع بسهولة رفع التخصيب إلى مستويات تفوق 90 % عند الضرورة. وهذا ما يجعل البرنامج النووي الإيراني بطبيعته غير قابل للتدمير بضربة عسكرية معزولة، حيث يتطلب تحقيق ذلك جهدًا استخباراتيًا متواصلًا، يشمل ليس فقط على منشآت التخصيب المعروفة، بل شبكة الإمداد واللوجستيات والكوادر البشرية المدربة على التعامل مع المواد الانشطارية.
ختامًا، تثبت إيران مرة أخرى بأنها لم تكن لتخاطر بفقدان ورقة استراتيجية ثمينة عبر الإهمال أو التهاون في إجراءات الإخفاء والتمويه والحماية. فعلى الرغم من أن الضربات الأخيرة قد تركت أثرًا كبيرًا على صورة القوة العسكرية الإيرانية أمام الرأي العام، لكنها لم تبدد حقيقة أن طهران راكمت خبرة استثنائية في فن الخداع الاستراتيجي والمراوغة النووية، وهو ما يجعل مستقبل ملفها النووي رهينًا ليس فقط للقنابل والصواريخ، بل للاستخبارات الدقيقة والقدرة المستمرة على تفكيك شبكات الإخفاء التي صممها الإيرانيون بإتقان بالغ.