إعداد - عبدالله عبدالرحمن الخفاجي:
في سياق الحراك الثقافي المتسارع الذي تشهده المملكة العربية السعودية، أصبحت مدينة الرياض اليوم واحدة من أبرز العواصم العالمية في احتضان الفنون ودعم الإبداع. وتُعد المعارض التشكيلية أحد أبرز مظاهر هذا التقدم، لما تقدمه من مساحات للتعبير الفني، ومنصات للتبادل الثقافي، وأدوات فعالة لأنسنة المدن وتعزيز الوعي الجمالي لدى المجتمع.
في هذا الإطار، افتتح «جاليري مرسمي» معرضه الصيفي السنوي تحت عنوان «الصيف عندنا»، بحضور نخبة من الفنانين التشكيليين من المملكة العربية السعودية، إلى جانب مشاركات عربية ودولية من دول مثل مصر، سوريا، السودان، وتركيا، مما منح المعرض بُعداً دولياً يعكس الانفتاح الثقافي الكبير الذي تعيشه المملكة اليوم.
تنوع بصري يعبّر عن الإنسان والحياة
ضم المعرض مجموعة واسعة من الأعمال التشكيلية التي تنوعت من حيث الأسلوب والمدرسة والموضوع، فجاءت بعض الأعمال واقعية توثق الحياة اليومية والمشاهد المألوفة، بينما مالت أخرى نحو التجريد والتعبير الرمزي واللوني. كما طُرحت موضوعات ذات بعد إنساني وشعوري، أبرزت مشاعر الحنين، الوحدة، الأمل، الحرية، والتأمل الوجودي.
وقد تميزت الأعمال ببساطتها وطرحها مواضيع قريبة من وجدان المتلقي، فتناولت بعضها تفاصيل الحياة اليومية والمشاهد الشعبية والبيئية، فيما غاصت أخرى في عمق الأحاسيس والمشاعر، وعكست بعض اللوحات روح الفنان المنطلقة بحرية وخيال واسع دون قيد، ما خلق تنوعاً بصرياً يشبه فسيفساء فنية تُرضي مختلف الأذواق.
هذا التناغم بين البساطة والعمق، وبين الرمز والواقعية، منح المعرض طابعاً مفتوحاً للقراءة والتأويل، وجعل من كل عمل نافذة خاصة لعالم مختلف، يُطل منه الزائر على رؤى وثقافات وتجارب فنية متعددة.
أوضح الأستاذ عدنان الأحمد، مدير جاليري مرسمي، أن المعرض يندرج ضمن أنشطة صيفية مستمرة حتى نهاية شهر أغسطس، بمفهوم «المعرض المتجدد» الذي تتغير فيه الأعمال أسبوعياً، ما يمنح الزوار تجربة جديدة في كل زيارة. وأكد أن هذا النموذج يسعى إلى جعل الفن جزءاً من الحياة اليومية، وخلق علاقة مستمرة بين الجمهور والإبداع، بما يعزز مكانة الفن كعنصر أصيل في نسيج المجتمع.
وأضاف الأحمد أن «الصيف عندنا» لا يقتصر على كونه فعالية لعرض الأعمال، بل يُعد منصة حقيقية لتمكين الفنانين من مختلف الخلفيات، وخلق حوار فني متبادل بينهم وبين الجمهور، مشيراً إلى أن دعم مثل هذه المبادرات يصب في رؤية المملكة 2030 التي تسعى إلى بناء مجتمع ثقافي مزدهر يقدر الإبداع والفنون.
شارك في المعرض عدد من الفنانين البارزين والموهوبين من داخل المملكة وخارجها، ومنهم:
عبدالله حماس، منصور العتيبي، كواكب عامر، همسة شلهوب، رقية إيبيلي ديدي، كنده معروف، مالك سعدالله، محمد لباش، حسين دقاس، صالح النجار، جاسم الضامن، رضوان حمزة، محمد ظاظا، محمد العمري، ابتسام الصفار، أوزليم ميتينكيا، سيبيل أوكموس، محمد آل شايع، عبدالعزيز طاهر، ومحجوب حسن.
تنوّعت تجارب هؤلاء الفنانين في الأساليب والمواضيع، مما أغنى المعرض برؤى فنية متعددة تعكس ثقافات وتجارب مجتمعية وإنسانية مختلفة، وتُبرز في الوقت ذاته تطور الذائقة البصرية واحترافية المشهد التشكيلي في المملكة والمنطقة.
الفنون التشكيلية لغة الشعوب وروح الحضارات، حيث تُعد من أكثر الوسائل قدرة على التواصل بين الشعوب، لما تحمله من رمزية ولغة بصرية تتجاوز الحدود واللغات. فهي توثق الذاكرة، وتُجسد القيم، وتُخلد الإرث الثقافي، وتمنح الإنسان وسيلة راقية للتعبير عن واقعه وأحلامه وتطلعاته. ومن خلال الفرشاة واللون، يتمكن الفنان من بناء جسر نحو الآخر، ونقل رسائل إنسانية عميقة بلغة واحدة يفهمها الجميع: لغة الفن.
وفي زمن تتسارع فيه الأحداث وتتغير فيه ملامح العالم، تبقى الفنون التشكيلية شاهداً صادقاً على العصر، ومرآة للواقع، وصوتاً للحس الجمعي. وهي اليوم، في ظل الدعم الكبير الذي توليه القيادة الرشيدة للفنون والثقافة، أصبحت أحد أهم أركان التنمية الثقافية والاجتماعية في المملكة، وأسهمت في إبراز الهوية السعودية بروح عصرية تتفاعل مع العالم دون أن تفقد أصالتها.
ختاماً
أصبحت المعارض التشكيلية ليست مجرد حدث ثقافي عابر، بل هي علامة على تحوّل مجتمعي واسع يؤمن بأن الفن ليس ترفاً، بل ضرورة حضارية. فهي توثّق لحظتنا المعاصرة، وتربطنا بجذورنا، وتفتح أمامنا آفاق المستقبل. ووسط الألوان واللوحات، تتشكل ذاكرة بصرية ناصعة تعكس نضج الحركة التشكيلية في المملكة، وتؤكد أن الفن هو لغة الحضارات التي لا تندثر، بل تبقى حية في القلوب والعيون، مهما تغير الزمن.
** **
تويتر: AL_KHAFAJII