د. سفران بن سفر المقاطي
في عصر تتسارع فيه وتيرة تدفق المعلومات ويتعاظم تأثيرها، تحتل وسائل الإعلام موقعًا محوريًا في تشكيل الوعي الجمعي وتوجيه سلوك المجتمعات، لا سيما خلال فترات الأزمات والكوارث. فعندما تعصف الحروب أو الكوارث الطبيعية بالمجتمعات، لا يقتصر دور الإعلام على نقل الأحداث، بل يتعداه إلى أداء وظيفة حيوية تتمثل في إدارة الحالة النفسية الجماعية وتعزيز القدرة على الصمود والتعافي، وقد أكد الدكتور ستيفن ريزنيك، أستاذ علم النفس الإعلامي بجامعة هارفارد، أن «الإعلام يشكل المرآة والموجّه في آن معًا، إذ يعكس الواقع ويؤثر في مسار ردود الفعل المجتمعية والنفسية»، وغالبًا ما تتجاوز الأزمات النفسية الجماعية حدود الأفراد المتأثرين مباشرة، لتطال شرائح أوسع من المجتمع، عبر ظاهرة «الصدمة غير المباشرة» أو ما يُعرف بـ»الصدمة بالوكالة». ففي هذا السياق، يمكن للتغطية الإعلامية المكثفة والمستمرة لمشاهد العنف والدمار أن تُحدث حالة من القلق الجمعي والشعور بانعدام الأمان، حتى لدى أولئك الذين يقطنون بعيدًا عن مركز الحدث. وتحذر الدكتورة كارين نورث، خبيرة الاتصال الجماهيري بجامعة جنوب كاليفورنيا، من أن «التعرض المتكرر لمحتوى صادم قد يؤدي إلى الإشباع العاطفي والتبلّد الوجداني، في حين أن التهوين من خطورة الأحداث قد يقوّض الثقة بالإعلام، ويُحرم الجمهور من المعلومات اللازمة لاتخاذ قرارات مستنيرة».
إن صياغة المحتوى الإعلامي أثناء الأزمات تتطلب احترافية تتجاوز الأطر التقليدية للعمل الصحفي؛ فاختيار الكلمات بعناية، وانتقاء الصور، وتوقيت النشر، جميعها عناصر تؤثر مباشرة في الاستجابة النفسية للجمهور.
فعلى سبيل المثال، الإكثار من استخدام مصطلحات مثل «كارثة شاملة» أو «دمار كامل» يعمّق مشاعر اليأس والعجز، بينما يُسهم التركيز على قصص النجاة والتضامن المجتمعي في ترسيخ الأمل وتعزيز القدرة على التحمل، ويؤيد هذا الطرح البروفيسور يوهان غولتز، المتخصص في دراسات الإعلام والأزمات، إذ يشير إلى أن نشر «القصص الإنسانية» التي تُبرز روح التضامن تساهم في بناء مناعة نفسية جماعية».
ومن بين الاستراتيجيات المؤثرة في هذا السياق، تبرز «الصحافة البناءة» أو ما يُسمى بـ»صحافة الحلول»، وهي منهجية لا تتجاهل تعقيدات الأزمات أو تحاول تجميلها، بل تسعى إلى تقديم نماذج عملية للتعامل معها وتجاوزها. ويُظهر هذا النهج قدرة الإعلام على تحويل مشاعر العجز الجماعي إلى إحساس بالتمكن والقدرة على الفعل الإيجابي. ويؤكد الصحفي البريطاني ديفيد بورنستين، أحد رواد هذا التوجه، أن «عرض الحلول لا يُعد تزييفًا للواقع، بل إتاحة أفق جديد للأمل وسط العاصفة». ويمتلك الخطاب الإعلامي قدرة فريدة على التأثير في السلوك الجماعي من خلال آليات نفسية معقدة؛ فالتكرار المستمر للرسائل التي تُركّز على الخطر والتهديد يُفعّل استجابة «الكرّ أو الفرّ» على المستوى الجمعي، مما قد يقود إلى سلوكيات غير عقلانية مثل هلع الشراء أو التصرفات العنيفة. في المقابل، يساهم تضمين الرسائل الإعلامية لعناصر إيجابية ومحفزة في تعزيز السلوكيات التعاونية والتضامنية. ويشير الدكتور بول تيرنر، المتخصص في علم النفس الاجتماعي، إلى أن «الإعلام الذي يبث رسائل تمكينية يرفع منسوب الثقة الجماعية، ويحفز على العمل المشترك».
وقدّمت تجربة الإعلام أثناء جائحة كوفيد-19 نموذجًا حيًا على أهمية الخطاب الإعلامي المتزن. إذ نجحت بعض وسائل الإعلام في المملكة وعدد من الدول في نقل معلومات دقيقة ومحدّثة دون إثارة الذعر، من خلال التركيز على الإرشادات الوقائية، وقصص التعافي، والابتكارات الطبية.
في المقابل، أدت التغطيات التي ركزت على أعداد الوفيات والمخاطر المستقبلية إلى تفاقم أزمة الصحة النفسية على مستوى عالمي، ومن التجارب الملهمة في هذا الإطار، تجربة الإعلام النرويجي في تغطية هجمات أوتويا عام 2011، التي أحدثت صدمة عميقة في المجتمع النرويجي والعالمي؛ ففي خطوة مغايرة للنهج التقليدي الذي يركّز على الجاني ودوافعه، اختارت وسائل الإعلام النرويجية تسليط الضوء على قصص الضحايا والناجين، مستعرضة تفاصيل حياتهم وأحلامهم، كما أبرزت صور التضامن الشعبي والدعم المجتمعي للمتضررين. وقد أسهم هذا النهج في التخفيف من حدة الصدمة النفسية، وكبح جماح التطرف، ومنع تمجيد الجناة أو إضفاء الهالة عليهم، واستثمر الإعلام النرويجي المنصات الرقمية للوصول إلى جمهور أوسع، مقدمًا محتوى مدروسًا يراعي الحالة النفسية العامة، من خلال مقاطع الفيديو والرسوم التفاعلية التي نقلت الرسائل بأسلوب إيجابي ومطمئن دون تهويل.
وتؤكد هذه التجربة أن الإعلام حين يُمارَس بمهنية وإنسانية، يصبح أداة فعالة في بناء الصمود المجتمعي، ويتطلب ذلك التدرّج في عرض المعلومات الصعبة، بحيث يُهيَّأ الجمهور نفسيًا قبل تقديم التفاصيل المؤلمة، مع تضمين معلومات حول سبل الدعم النفسي المتاحة، لمساعدة المتلقين على التعامل مع الأثر النفسي للأحداث. ويُعد التنويع في المحتوى الإعلامي من الاستراتيجيات الرئيسية في إدارة الأزمات. فالموازنة بين نقل الأخبار الصعبة وتقديم المحتوى الإيجابي لا تعني تجميل الواقع أو الهروب من الحقائق، بل تسعى إلى رسم صورة شاملة تُبرز عناصر الأمل والقدرة على التعافي. كما أن الشفافية في نقل المعلومات تُعد إحدى الركائز الأساسية لبناء الثقة مع الجمهور، إذ إن الإعلان الصريح عن مصادر المعلومات، والإشارة إلى محدودية البيانات عند الاقتضاء، يُمكّن الجمهور من تكوين صورة واقعية دون تهويل أو تهوين. ويؤكد الدكتور مايكل فينكل، أستاذ الصحة النفسية والإعلام بجامعة لندن، على ضرورة التعاون الوثيق بين المؤسسات الإعلامية وخبراء الصحة النفسية، لضمان صياغة الرسائل الإعلامية بطريقة تراعي الأثر النفسي المحتمل، وتتجنب الممارسات التي قد تُعمّق الصدمة الجماعية، كما أن تدريب الصحفيين على مبادئ الإسعاف النفسي الأولي وفهم أساسيات الصحة النفسية من شأنه رفع جودة التغطية الإعلامية وجعلها أكثر اتزانًا وإنسانية.
ومع ذلك لا يمكن إغفال دور التقنيات الحديثة في تعزيز فاعلية المحتوى الإعلامي، حيث تتيح الرسوم التفاعلية والمقاطع المصورة المدروسة، وحتى البث المباشر المسؤول، إمكانيات متقدمة لنقل المعلومات بفاعلية، دون تحميل الجمهور أعباء نفسية إضافية، كما أن إبراز السرديات المحلية والثقافية يعزز من فاعلية الرسائل الإعلامية، نظرًا لأن كل مجتمع يمتلك آلياته الخاصة للتأقلم، وإظهار هذه الجوانب يسهم في إحياء قيم التضامن والتكافل، وتكمن المهنية الحقيقية في متابعة الأثر طويل المدى للتغطية الإعلامية، إذ إن الصدمات الجماعية لا تنتهي بانتهاء الحدث، بل قد تستمر تداعياتها لسنوات. لذا، ينبغي على الإعلام مواصلة التركيز على مراحل التعافي، وقصص الإعمار وإعادة البناء، لما لذلك من أثر بالغ في استعادة الأمل وتعزيز الثقة بالمستقبل.
وفي الختام، يمثل دور الإعلام في إدارة الأزمات النفسية الجماعية مسؤولية أخلاقية ومهنية جسيمة؛ فالكلمة والصورة في عصر الاتصال الجماهيري لم تعودا مجرد أدوات لنقل المعلومات، بل أصبحتا من القوى المؤثرة في تشكيل الواقع النفسي والاجتماعي للمجتمعات. والنجاح في هذه المهمة يتطلب توازنًا دقيقًا بين المصداقية الصحفية والمسؤولية الإنسانية، وبين نقل الحقيقة وحماية الصحة النفسية العامة. إن الإعلام الواعي والمسؤول يمكن أن يكون جسرًا للعبور من الصدمة إلى التعافي، ومن اليأس إلى الأمل، ومن التفكك إلى التماسك المجتمعي.