د. ناهد باشطح
فاصلة:
«ثقافة العيب جعلتنا نعيش بنصف حياة، نخفي النصف الآخر خوفاً من كلام الناس»
-الروائي السعودي عبده خال-
*****
مانشستر مدينة متعددة الثقافات، تتقبل مختلف الأديان والأعراق، وتحتضن جاليات عربية ومسلمة وجنسيات آسيوية وإفريقية وأوروبية متنوعة. ورغم هذا التنوع، تظل الهوّة الثقافية قائمة بين الشرق والغرب، كما قال «كبلينغ»: «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبدًا».
حين تعيش في بيئة جديدة، تلتقط عيناك التفاصيل التي تختلف عن بيئتك الأصلية. وأكثر ما استوقفني في مانشستر لم يكن الاختلاف في اللغة والطعام أو اللباس، بل أدوات الضبط الاجتماعي التي تختلف تمامًا عن مجتمعنا العربي.
كل مجتمع ينظم حياة أفراده عبر أنظمة وأعراف. وقد قسّم عالم الاجتماع «كارل مانهايم» أدوات الضبط الاجتماعي إلى مباشرة، مثل تأثير الأهل والمعلمين، وغير مباشرة كالأنظمة والقوانين والرأي العام. بينما في المجتمعات العربية، تلعب الأسرة والدين والقبيلة والعادات الدور الأبرز، وغالبًا ما يكون الضبط قائمًا على فكرة «العيب» «TheChrysanthemum and the Sword»
في كتابها الشهير وصفت الأنثروبولوجية الأمريكية «روث بنديكت» المجتمعات التي تبنى على ثقافة العيب بأنها تزرع القيم عن طريق العار والتهديد بالنفور الاجتماعي وليس من خلال القيم الداخلية.
في مانشستر، لم أتلمس ثقافة العيب في أي من سلوكيات الناس فيها، لاحظت أن الأطفال يُربّون على الاستقلالية، بينما في مجتمعاتنا، يربى الطفل على العيب حيث يُلقن منذ الصغر أن يرضي الآخرين ويحذر من تقييمهم له.
كما أوضح الدكتور «هشام شرابي» في دراسته «النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي»، فإن الضمير في ثقافتنا يُزرع داخل الطفل من خلال الخوف من الناس لا من قناعات داخلية، فينشأ ضمير خارجي أكثر منه ذاتي.
ثقافة العيب لدينا تتجاوز الدين والقانون، فهي تتعلق بما قد يُغضب الجماعة أو يحرج العائلة، وأحيانًا نمارس أشياء سرًا ونستنكرها علنًا فقط لأنها مفيدة في مرحلة ما لحفظ تماسك المجتمع، لكنها مع التراكم الزمني تحولت إلى عبء نفسي وكبت للفرد وازدواجية.
في الأماكن العامة في مانشستر كنت ألاحظ طريقة تعامل الآباء مع أبنائهم، أو من خلال الحديث مع الجيران عن أولادهم، لم يكن ذلك غريبا علي فقد آمنت بالتربية الحديثة وطبقتها أيضا لكنني استغرقت أن أراها متمثلة أمامي في الأماكن العامة.
جيل اليوم بدأ يتحرر من قيود ثقافة العيب، ويعيد تعريف العيب وفقًا لقيمه الشخصية. قد يبالغ أحيانًا، لكن إعادة صياغة ثقافة العيب، بحيث تصبح مرجعيتها احترام الذات والآخر، لا الخوف من المجتمع بات ضروريا.
نحن بحاجة إلى تربية أبنائنا على أن العيب ليس ما يُغضب المجتمع، بل ما يُسيء للدين، والضمير والإنسانية. بذلك، ننشئ جيلًا أكثر اتزانًا، يملك إطارًا داخليًا من الانضباط، لا قيدًا خارجيًا من الخوف.
ربما يكون الوقت قد حان لنعيد النظر في ثقافة العيب، البعيدة عن الدين من خلال تغيير أنماط التفكير السائدة وإعطاء الأولوية للقيم الحقيقية التي تُعزز من تطور المجتمع.
** **
المصادر:
- Perera, A. (2024, February 13) What Is Social Control In Sociology? Simply Psychology. Retrieved from https://www.simplypsychology.org/what-is-social-control.html
- Sharabi, H. B. (1988). Neopatriarchy: A Theory of Distorted Change in Arab Society. New York, NY: Oxford University Press.