نجلاء العتيبي
«حين يُولَد الورد في ترابك، لا يولد زهرًا فحسبُ، إنما يُولَد وطن صغير يسكنه العطرُ ويقطنُهُ الحنين».
في أعلى السُّحُب، حيث تُوشَّى الجبال بالخُضرة، وتتعطَّر الأنفاس برائحة التاريخ، تقف الطائف شامخةً كما لو أن الزمن قرَّر أن يتأنَّق عند بوَّابتها.
هي أكثر من مدينةٍ؛ إنها ذاكرة نابضة مهدٌ للنقاء في كل نسمةٍ، ومسرحٌ للجمال يُعانق الأرض بثوبٍ من الورد. بين قِممها الوادعةِ وسهولِها المتموجة يُولَد الورد الطائفي لا كزهرةٍ فقط، بل كرمزٍ للبهاء، ومرآةٍ تعكس سكينة الطبيعة، حين تهبُّ يدها على شكل عبير.
ورد الطائف ليس مجرد نبتة تنمو؛ إنها حكاية تنسجها الأرض بأطراف الأصابع، وترويها الغيوم حين تمطر موسمًا من البهجة.
حين يطلُّ تتهيَّأ المدينة كما لو أنها تنتظر ضيفًا ملكيًّا، تُروى الحقول بصبرٍ، وتُقطف الورود بيدٍ تحترم النعومة، وتُغلى بتأنٍّ كما لو أن كل قطرة من دهنها تحتوي على روح الطائف نفسها.
عروس المصايف لم تنم يومًا في ظلال الاسم، بل صارت ترتقي به.
كانت وجهة الأجداد حين بحثوا عن الصفاء والجو البديع، وغدت مدينة الأجيال حين تقاطع فيها التراث مع الحداثة.
شوارعها توسَّعت، أبنيتُها علت، أنظمتها تطوَّرت، لكنها لم تُبدِّل جلدها، بل رفعت هويَّتها على راية التطوير وكأنها تقول: “أنا الطائف لا أنسى مَن أكون حتى وأنا أتجدَّد”.
ذلك التطوُّر لم يكن مجرد عمرانٍ يشقُّ جبلًا أو طرقاتٍ تتسع للعابرين؛ إنه تحوُّل أعمق طال الإنسان نفسه.
أبناء الطائف أولئك الذين تربَّوا على نكهة الورد وجدوا أنفسهم بين زمنين؛ زمن الحكايات التي كانت تُروى تحت ظلال الأشجار، وزمن الفرص الذي يطرُقُ أبوابهم بلهجة المستقبل.
لم ينسوا مدينتهم، بل أعادوا اكتشافها من جديدٍ، صار منهم المبتكر لمنتجاتٍ تحمل هويَّتها، وصانع العطر الذي يُصدِّره للعالم الخارجي المنبهر بها، ومُؤرخ الجَمال الذي يروي قصة حب حقيقية لأرضها، وردة الطائف زَرعت فيهم شغف التميُّز، وسقتهم بعبير الأصالة.
ومن قلب ذلك الموسم الزهري يُصنع التقدير، وتُقام المهرجانات ليس لعرض الزهور فقط إنما للاحتفاء بالتراث واليد التي تغرس، والعين التي تعشق، والأنف الذي يلتقط عطر التاريخ.
يأتي الزائر من كل صوب لا ليرى الحقول فقط، ولكن ليشعر بما لا يُقال بأن هذه الأرض تحمل شيئًا من الطمأنينة، شيئًا من الحكمة، وكثيرًا من الجمال.
في الطائف لا يُغرَس الورد عبثًا، هناك وعد بين الأرض والمستقبل: أن تُثمِر الأرض طيبًا، وتُمطر الأمل رحمةً، ويكون للناس نصيبٌ من الاتزان.
ولهذا يكبرُ أبناؤها وهم يعرفون أن الحياة لا تُقاس فقط بمقدار الإنجاز، بل بمقدار ما يُحافظ عليه من روح الأشياء.
فبين منارةٍ تُضاء حديثًا، ومزرعةٍ تُقطف تقليديًّا ينشأ جيلٌ قادرٌ على حمل الذاكرة في يدٍ، والمستقبل في يد أخرى.
الطائف مدينة حين تُذكَر تُغلَق الكتب، وتُفتَح النوافذ؟ فلا سطورٌ تكفيها، ولا حروفٌ توفِّيها، وفي موسم وردها لا يتفتَّح الزهر وحده، بل تتفتح في القلوب مشاعرُ فريدة، تُعيد للإنسان صلته بالأرض، وتُخبره أن العراقة لا تُغادر المكان، بل تزداد عمقًا كلما تقدَّمت خطوات الحضارة.
ضوء
«بنت السحاب اللي تنفّس بالورود
على اختلاف ألوانها وأشكالها
تحرَّرت بالحسن من كل القيود
وتربَّعت عرش الجمال لحالها».
- الشاعر: محمد دخيل القثامي