تغريد إبراهيم الطاسان
ثمة علاقة غريبة بين الإنسان والوقت؛ فالوقت هو الشيء الوحيد الذي نملكه بالكامل، ومع ذلك نفقده كل يوم دون أن نشعر.!
في أوقات العمل والدراسة، نشكو ضيق الوقت وقصره، وحين تأتينا الإجازة الصيفية، نشكو طوله وفراغه. إنها مفارقة وجودية واجتماعية..
فالوقت في ذاته محايد، لكنه يصبح ثقيلاً أو خفيفًا بقدر ما نملؤه بالمعنى.
وهكذا كانت الإجازة الصيفية دائمًا مرآة لوعينا الحضاري:
هل نراها فسحة راحة فقط؟ أم مساحة بناء وتجدد؟
هل نملؤها بالكسل والانتظار؟ أم ننسج من خيوط تفاصيلها أحلامنا ومشاريعنا الصغيرة والكبيرة
حين نعود بذاكرتنا عشرين أو ثلاثين عامًا إلى الوراء، نستحضر صورة الإجازة الصيفية كمساحة واسعة من الفراغ الممتد.
كانت الشمس تشرق وتغيب، والأيام تتوالى، بلا برامج واضحة أو أنشطة منهجية منظمة، سوى ما يخلقه الأطفال والشباب من ألعاب شعبية أو زيارات عائلية أو سفرات قصيرة.
كان الفراغ حينها حاضرًا بعمق في حياة الأسر، يثير فيهم الخوف أحيانًا على أبنائهم من ضياع الوقت أو الانحراف أو الكسل والخمول العقلي.. لكن، هل تغيرت نظرتنا اليوم للإجازة الصيفية؟
في ظاهر المشهد، نعم. لقد أصبح الصيف مزدحمًا بالبرامج والمبادرات والفعاليات.
وزارة التعليم مع مؤسسة موهبة تطرح برامج صيفية إثرائية للموهوبين ولتطوير المهارات، ووزارة الرياضة تنظم مهرجانات ومسابقات، ووزارة الثقافة تطلق معسكرات فنية وأدبية وموسيقية، والقطاع غير الربحي يقدّم مخيمات تطوعية ومجتمعية، فضلًا عن عروض السفر والسياحة التي تملأ الفضاء الإعلاني. لم يعد الفراغ كما كان؛ لكنه لم يختفِ تمامًا.
ففي مقابل هذا الازدحام، ثمة سؤال ملحّ: مَنْ المستفيد من كل هذه البرامج؟
هناك شريحة واسعة من الشباب والفتيات لا تجد طريقها إليها، إما لغياب القدرة المالية، أو لضعف الوعي الأسري بأهمية إشراك الأبناء في برامج صيفية مفيدة، أو لأن هذه الأنشطة – رغم كثرتها – لا تلبي ميولهم أو تتناسب مع طاقاتهم الحقيقية.
فما يزال كثير من الشباب يقضون إجازاتهم بين النوم الطويل والاستهلاك الرقمي المفرط والتسكع في المقاهي والمجمعات.
ولا يمكن هنا أن نغفل أثر الجو القاسي في أشهر الصيف على تفعيل البرامج. حرارة تتجاوز 50 درجة مئوية تجعل من أي نشاط خارجي تحديًا صعبًا، مهما كانت الرغبة.
ولعل هذا الواقع المناخي يفرض علينا إعادة التفكير في هندسة برامجنا الصيفية؛ فنركز على الأنشطة الداخلية، وعلى البنية التحتية الترفيهية والتعليمية المغلقة التي تستوعب طاقات الشباب بعيدًا عن لهيب الشمس.
إن نظرتنا للإجازة الصيفية اليوم تعكس تحولات اجتماعية عميقة، فلم تعد الإجازة مجرد راحة، بل صارت فرصة للتنمية الذاتية، وصناعة التميز، وتجريب أشياء جديدة تصقل الشخصية.
فمثلاً، الفتيات يجدن في برامج الفنون والثقافة والمسرح والموسيقى مساحة للتعبير عن ذواتهن، والأبناء الذكور يجدون في المعسكرات الكشفية والرياضية بيئة للتحدي والانضباط، حتى صغار السن، صاروا يشاركون في ورش البرمجة والروبوت وريادة الأعمال، وهو ما لم يكن حاضرًا في الأجيال الماضية بهذه الكثافة والاحترافية.
لكن التحدي الأكبر يظل في مدى شمولية هذه البرامج: هل هي محصورة في المدن الكبرى؟
هل تصل للقرى والمحافظات البعيدة؟
هل تراعي الفروق الاقتصادية والاجتماعية بين الأسر؟
وهل تغطي مجالات الفنون والآداب والحرف اليدوية، أم تظل حبيسة الأنشطة التقليدية كالدورات العلمية والأنشطة الرياضية وحدها؟
إن طاقات الشباب طاقات لا تنضب، حين تُستثمر جيدًا فإنها لا تصنع فردًا نافعًا لنفسه فحسب، بل تصنع مجتمعًا مبدعًا ومنتجًا ومتماسكًا.
الإجازة الصيفية هنا ليست استراحة محارب، بل هي معمل إعداد وصقل وبناء من خلالها تتشكل الهوايات، وتُكتشف المواهب، وتتكون اتجاهات الحياة.
في الإجازة الصيفية قد يولد كاتب جديد، أو مهندس بارع، أو موسيقي مبدع، أو رياضي محترف. لكنها – حين تُهدر بلا تخطيط – تصبح مقبرة زمنية تدفن فيها الأحلام الصغيرة والكبيرة.
ما نحتاجه اليوم ليس مزيدًا من البرامج وحسب بل مزيدًا من العدالة في توزيعها، ومزيدًا من التنوع في مضمونها، ومزيدًا من التشويق في عرضها.
نحتاج إعلامًا صيفيًا موازيًا يذكّر الأسر بضرورة استثمار هذه الفترة في بناء شخصية الأبناء. ونحتاج مدارس ومؤسسات تربوية تدمج الطلاب فيها قبل نهاية العام الدراسي بخطط واضحة لما بعد الاختبارات.
ونحتاج كذلك إلى مبادرات أهلية تطوعية محلية، تصنع فعاليات صغيرة في الحي والقرية والمدينة، تستوعب من لا يقدرون على البرامج الكبرى.
لقد تغيرت نظرتنا للإجازة الصيفية نظريًا، لكنها لم تترسخ بعد في ثقافتنا اليومية كأسلوب حياة منتج، لا تزال بيننا أسر تعتبر الإجازة انقطاعًا تامًا عن كل التزامات التعلم والتطور، وأخرى ترى فيها فرصة لتطوير الذات حتى آخر يوم فيها. والفرق بين النمو والجمود، بين التقدم والتراجع، يبدأ من هنا: من كيف نملأ فراغ الوقت بوعي وعمل ومعنى.
وهكذا، يبقى الصيف اختبارًا خفيًّا لوعينا الفردي والجمعي..
اختبارًا لقدرتنا على تحويل الوقت من مجرد ساعات تمضي إلى حياة تُصنع.
فمن يرَ الإجازة محطة انتظار فلن يغادرها إلا بما دخلها به!
لكن من يراها فرصة لبناء ذاته وطاقاته وعلاقاته وأحلامه سيخرج منها وقد صار شخصًا آخر… أقوى، أوسع أفقًا، وأقرب إلى الحياة التي يريد.
فالزمن لا يظلم أحدًا، لكنه لا يمنح أحدًا شيئًا دون سعي..
وما الصيف إلا وقت آخر، يهبنا شمسًا حارقة أو يزرع فينا نورًا جديدًا.. كلٌ يختار أي شمس يريد..!