مرفت بخاري
عامٌ جديدٌ يستهلّ صفحاته البيضاء، ويفردها على دروبنا، معلنًا نهاية عامٍ وبداية آخر.
نسأل الله أن يعمّ فيه الخير، وأن يشملنا بموفور العافية، والرزق الحلال المبارك، وأن يعيذنا من كل شر، ومن حقد الحاقدين، وأعمال السحرة، وحسد النفوس الضعيفة.
ولعلّ بعض المثقفين والأدباء يتعجبون من هذه الاستعاذة، من ذكر السحر والحسد وأهل الضغائن، لكن من خَبِر الناس، وقرأ وصف نبيّنا الكريم لأشدّهم خبثًا، لا يتعجّب.
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» في وصف المنافق
وقال تعالى: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}، ثم خصّ الحاسد فقال: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}.
ومن ذلك الشرّ ما رأيته بعيني، وعايشته لا كحكاية تُروى، بل كريحٍ صرصرٍ مرّت على أيامٍ كانت دافئة.
شرٌّ يتخفّى بثوب المحبة، ويختبئ في ملامح الأخوّة، يتسلّل بخفة إلى عقر النعمة، فيصيبها بسهمٍ لا يُرى.. فتتلاشى.
وما يجعل الأمر أشد دهاءً، أنه يُشيع عنك ما ليس فيك، فيقول: إنك موسوس، تخاف العين وتجهل القضاء والقدر، وإنك فاشل، ولهذا تفقد كل ما تملك.
وليته يقف عند حدّ الإيذاء الخفي، بل يسير على طريقك، يلبس نجاحك كأنه له، ويُقنع الآخرين أنه أجاد ما عجزت عنه.
ذاك الحاسد -المُسلّط من إبليس، بل أشد- لا يرى نفسك، بل يرى ما بين يديك.
يتمنّى زوال النعمة لا حبًّا فيها، بل كرهًا لوجودها بين يديك.
ما يُؤذيه ليس فشلك، بل إنك رغم كل شيء.. محبوب.
فيركض بكل سُمّه ليُطفئ نورك، ويشوّه صفاءك، ويعيد ترتيب ملامحك في أعين الناس بما يوافق كرهه.
فإذا بالقلوب التي أحبّتك، تشكّ، وإذا بالأحاديث تُبنى على وهم، والصورة تُلوَّن من جديد.. لا لتُجمّل، بل لتُطمس.
ولو أنصت له من في قلبه ذرةُ حكمة، لأبصر خديعته، ولكن.. الكلمة إذا خرجت بلبوس الحب، قلّ من يرتاب بها.
ذاك الإنسان لا يقترب منه أحد إلا وخسره، لأن نواياه فاسدة، وإن بدا لطيف الكلام.
وهنا يحضر بيت الشاعر العباسي ابن المعتز، كأنه كُتب لحالهم:
اصبرْ على كيدِ الحسودِ، فإنّ صبركَ قاتلُه
فالنارُ تأكلُ بعضَها إن لم تجدْ ما تأكلُه
فالعام الجديد لا يُقاس بالأيام ولا بالساعات، بل يُقاس بنقاء النوايا، بخفّة القلب من أعباء الغيرة، وصفاء النفس من شوائب الحسد.
فلنُقبل عليه دون بُغض، دون ظن، دون نظر إلى ما في أيدي الناس،
وليكن دعاؤنا فيه: اللهم طهّر قلوبنا كما تُطهّر الأرض بالمطر، واجعل بيننا وبين أهل السوء حجابًا من نورك، لا يُرى ولا يُخترق.
وإن مضى الحاسد متبجّحًا بنجاحٍ سُرق، أو بصورةٍ شوّهها بكلمة، فلا يظنّن أن الله غافلٌ عمّا يفعل الظالمون.
فالجزاء يأتي من جنس العمل، عدلًا لا ظلمًا، وإن تأخّر.
من تمنى زوال النعم عن غيره، سُلبت منه النعمة التي بين يديه دون أن يشعر.
ومن شوّه السمعة، كُشف ستره عند أول عثرة.
من حرّض الناس على القلوب الطيّبة، ابتلاه الله بمن يُمزّق أحبّ الناس إلى قلبه.
ذاك الذي حسد على المال، يُبتلى بخوفٍ دائم من الفقر، وإن فاض ماله.
ومن حسد على الصحة، يُنهَك جسده بأوجاعٍ لا يُعرف لها دواء.
ومن حسد على القبول، يُنزع منه نور الوجه، ويُحرَم الطمأنينة، ويعيش بين الناس غريبًا، وإن ازدحم حوله الجمع.
العقوبة ليست دومًا صاعقة من السماء، بل أحيانًا تكون نزفًا داخليًا لا يُرى.. وخوفًا لا يهدأ.. وروحًا لا تستقر.
فالحاسد يظلّ يركض، لا يلحق.
يكدّس، لا يشبع.
يراقب، ولا يطمئن.
يأكل قلبه كلّ يوم، حتى وإن أكل من موائد الملوك.
فالحسد نار.. لا تأكل النعمة، بل تأكل صاحبها أولًا.
فدعهم يمكرون.. {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
ودع النور فيك يضيء.. وإن حاولوا حجب الشمس.