خالد محمد الدوس
في عصر الثورة الرقمية وتحولاتها السريعة التي أثرت على الفكر والخيال والقيم والسلوك ناشرة أذواقا شاذة وممارسات تناهض قواعد الضبط الديني والقيمي والاجتماعي والأخلاقي، ومن هذه الظواهر الاجتماعية المنتشرة مع الأسف الشديد في واقعنا المعاصر، قضية (تصوير الطعام) ونشره على مواقع شبكات التواصل الاجتماعية، وأصبحت في الواقع عادة يومية للكثيرين.. بل تحولت ومع حّمى المنافسة على تقديم المحتوى الأكثر متابعةً إلى هوس اجتماعي يمارسه هؤلاء دون وعي ذاتي، أو رادع ديني، أو ضابط أخلاقي.. أو حتى الإدراك بتأثيراته النفسية والعاطفية والثقافية والاجتماعية على البناء السلوكي، ومعروف أن أي سلوك يبدأ كوسيلة لتوثيق اللحظات يتحول -كيميائيا- إلى إدمان إلكتروني أو هوس رقمي يعكس بالطبع فراغا نفسيا وخللا في معايير المجتمع السائدة وقيمه الأصيلة.. بل يصبح وبحسب معطيات علم الاجتماع الثقافي (استلابا ثقافيا) في ظل شدة رياح العولمة الرقمية وتحدياتها المستقبلية..!!
إن الاستعراض الرقمي التفاخري على مائدة الطعام الذي تحول إلى (أزمة قيم) حقيقية في واقعنا المعاصر يعكس تعزيز النزعة الاستهلاكية السطحية وإهدار القيمة الحقيقية للطعام إذ لم يعد الطعام وسيلة للإشباع الجسدي، أو التلذذ الحقيقي بل تحول إلى أداة استعراض؛ فالبعض لا يهتم بتذوق الأكل بقدر ما يهتم بمدى إعجاب المتابعين بالصورة والتصوير..!!
هذا «السلوك اللامعياري» يظهر تحولا خطيرا في أولويات الإنسان المعاصر حيث أصبح «الظهور» وعلى طريقة (شوفوني)..!! أهم من احترام (موائد الطعام) ومراعاة مشاعر الآخرين ممن هم يعيشون في بيوت مستورة الحال لا تجد أصناف الأكل وأطيبه.
وهذه القضية ليست مجرد عادة بريئة عابرة، بل تحمل في طياتها تداعيات خطيرة على التماسك الاجتماعي والقيم الأخلاقية في عصر السوشيال ميديا.
يشير علم الاجتماع الرقمي كعلم حديث له نظرياته وأبحاثه ومقوماته العلمية أن (تصوير الطعام) يعزز ثقافة الاستهلاك المفرط أو الترفي كما أشار إلى هذه الجزئية عالم الاجتماع الأمريكي «ثورستين فيبلن» في كتابه الشهير «نظرية الطبقة المترفة»، حيث يتحول الطعام إلى سلعة بصرية تقاس جودتها بمدى جاذبيتها على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وليس بقيمتها الغذائية أو طعمها، حتى المطاعم اليوم بعضها يخصص أطباقا (صديقة للكاميرا) بدلا من أن تكون (صديقة للصحة)..!! مما يكرّس نمطا غذائيا قائما على المظاهر.. كم من الوقت يهدر في تعديل الصور واختيار الفلاتر وكتابة التعليقات الجذابة.؟ هذه الممارسات لاشك تسرق اللحظات الحميمية التي يفترض أن نستمتع فيها بالطعام والتواصل مع الآخرين على مائدة الوعي واحترام الأكل..! لتحل محل علاقات واهية مع الشاشة الرقمية..!
بعض الدراسات المتخصصة أظهرت أن متابعة صور الأكل بشكل مفرط قد يزيد من الشعور بعدم الرضا خاصة عند المقارنة بالآخرين، كما أن التركيز على (المظهر) بدل من (الجوهر) يولد قلقا اجتماعيا وصراعا نفسيا داخليا حول الصور الذاتية حتى في أبسط تفاصيل الحياة كالأكل..!!
طبعا ليس المطلوب التوقف عن رصد وتوثيق اللحظات الجميلة في حياتنا اليومية ولكن من الأهمية بمكان إعادة النظر في كثير من (الممارسات اللامعيارية) وتعزيز الوعي الرقمي خاصة على موائد الأطعمة.
في النهاية.. الطعام وأصنافه نعمة ينبغي أن نستمتع بها بعيداً عن ضغوط «اللايكات» ونعيد إليه قيمته الإنسانية الحقيقية قبل أن يتحول إلى مجرد صورة تنُسى بين ملايين المنشورات.!