د. فواز كاسب العنزي
في زمن التحول والتطور، تتصدر الصحة النفسية طليعة أولويات العالم المتقدم، بوصفها الركيزة الأساس في بناء الإنسان الفاعل والمجتمع السليم. غير أن المشهد العربي - وفي مقدمته المنصات الإعلامية - يعاني من ظاهرة خطيرة، تتمثل في تصدر غير المؤهلين للمشهد النفسي، وممارستهم للإرشاد والدعم النفسي دون تأهيل علمي، بل وبتغليف الجهل بمسميات براقة مثل «الكوتش» أو «خبير الطاقة».
المؤسف أن بعض هؤلاء لم يتجاوز دورة لا تتعدى الثلاثة أيام، لكنه يتحدث أمام الجمهور عن العلاج النفسي، و«ذبذبات الشفاء»، و«رفع الترددات»، ويخلط بين التنمية البشرية والعلاج النفسي المهني. هذه الممارسات لا تشكل فقط تهديدًا للصحة النفسية، بل هي انتهاك لكرامة الإنسان حين يُستغل خوفه وجهله ليُباع له الوهم. هذه الظاهرة ليست وليدة فرد أو منصة، بل هي نتاج غياب ثقافة علم النفس في المجتمع، ونقص الفهم المؤسسي لقيمته. كما أن تأخر المناهج التعليمية في تضمين مفاهيم الصحة النفسية بشكل علمي ساهم في انتشار الخرافة، وجعل العامة أسرى للغة سطحية وسرديات غير موثقة.
في المجتمعات المتقدمة، تُعد الصحة النفسية جزءًا أصيلًا من منظومة الرعاية الصحية، لا تُفصل عن الصحة الجسدية، ولا تُترك لعبث الهواة. هناك، لا يمكن لأي فرد أن يمارس الإرشاد أو العلاج إلا بتأهيل علمي، وتحت رقابة مهنية دقيقة. بل يتم الاستثمار في برامج الصحة النفسية داخل المدارس والوظائف والسجون والأسر. لماذا؟ لأنهم يعلمون أن الإنسان هو الاستثمار الحقيقي، وأن الوقاية تبدأ من المعرفة. من المبشر أن بعض الجهات الحكومية في المملكة بدأت بالفعل بتبني برامج الدعم النفسي في بيئة العمل، دعمًا للموظف من حيث الوقاية، والإنماء، والعلاج. وهذه خطوة متقدمة في الاتجاه الصحيح، بشرط أن تُنفذ تحت إشراف مختصين مؤهلين ومرخصين من الجهات المعنية. لكن ما يحدث أحيانًا - بحسن نية - هو أن بعض المسؤولين يسعون لتقريب هذه الخدمات من الموظفين، فيُقدّمون برامج الدعم النفسي بأسماء بعيدة عن المصطلح النفسي الصريح، ظنًّا منهم أن هذا يُشعر الموظف بالراحة، أو يُجنّبه الحرج أو التردد. فتُستخدم عبارات مثل «رفاه وظيفي»، أو «جلسات تنشيط فكري»، أو «تمكين ذاتي»، بدلاً من تسميتها بصيغتها العلمية مثل «جلسات دعم نفسي مهني» أو «لقاء إرشادي مع مختص نفسي».
ورغم نية التخفيف، إلا أن هذه التسمية غير المباشرة قد تعزز - من حيث لا يشعر أصحاب القرار - ثقافة الخوف أو الحذر من المصطلح النفسي، وتجعل الموظف يربط الخدمة بالضعف أو الوصمة، بدل أن يراها أداة تمكين ونمو.
رؤية المملكة 2030 وضعت «الإنسان» في قلب التحول الوطني. ومن أهم ما أكدت عليه هو تمكين المواطن نفسيًا، وخلق بيئة عمل صحية، وتعزيز جودة الحياة من خلال الدعم النفسي المستدام. ولهذا، فإن التصدي لمدّعي الإرشاد النفسي ليس مجرد تصحيح مهني، بل هو التزام وطني يتماشى مع رؤية المملكة التي تستهدف بناء الإنسان علميًا ونفسيًا.
إننا بحاجة إلى موقف واضح من وزارة الصحة وهيئة التخصصات الصحية، لتنظيم هذا المجال، ومنع أي شخص لا يحمل ترخيصًا معتمدًا من ممارسة الإرشاد النفسي أو الظهور كخبير أمام الجمهور. كذلك، يجب على وسائل الإعلام والجهات التنظيمية فرض رقابة على المحتوى النفسي المنشور، أسوة بالمحتوى الطبي أو القانوني. الصحة النفسية ليست ترفًا، ولا حقلًا مفتوحًا للادعاء. هي علم، ومهنة، وأمانة. ومن واجبنا - كمجتمع ومؤسسات وأفراد - أن نصنع وعيًا جديدًا، يقوم على تمكين الإنسان من أدوات العلم، لا تسليمه لسطوة الجهل. فلنحمِ من يعاني، ولنحترم من يعمل بعلم، ولنعمل سويًا لبناء مجتمع لا يخجل من الاعتراف بألمه، ولا يتردد في طلب المساعدة من أهل الاختصاص.
** **
- أخصائي توجيه وإرشاد نفسي