د. رانيا القرعاوي
أظهرت دراسات عدة أن تغيير الأسماء أو الشعارات من دون استراتيجية واضحة يؤدي إلى نتائج سلبية، من بينها انخفاض سلوك الشراء وتراجع ولاء المستهلكين والموظفين. وتشير دراسات حديثة إلى أن الحفاظ على التواصل مع الجمهور خلال فترات إعادة التسمية يزيد من تقبّل التغيير، بينما تؤكد أبحاث أخرى أن العلاقات والعروض الأساسية والهوية البصرية المؤسسية (CVI) تشكل عناصر محورية في تشكيل مشاعر الجمهور تجاه العلامة التجارية.
خلال الفترة الأخيرة، أعلنت سوريا عن إطلاق هويتها الوطنية الجديدة، ممثلة في شعار رسمي ذهبي لصقر يحمل ثلاث نجوم. وقد وُصف هذا الشعار بأنه يُجسّد وحدة سوريا التي لا تقبل التقسيم، حيث تشير النجوم الثلاث إلى العلم السوري، ويرمز الصقر إلى القوة والتوازن، بينما تمثل الريشات الأربع عشرة محافظات البلاد، ويمثّل الذيل المناطق الجغرافية الخمس الكبرى. ورغم هذه الرمزية السياسية الواضحة، فإن الإعلان لم يترافق مع أي إشارات لمشاركة شعبية في تصميم الشعار أو اختيار رموزه. لم تُنشر استبيانات، ولم تُطلق حملات تشاورية مع المواطنين، ما يفتح باب التساؤل حول مدى قدرة التصميم البصري وحده على صناعة شعور بالانتماء، ومدى جدوى فرض الهوية من الأعلى.
وفي ذات الأسبوع، أعلن النادي الأهلي السعودي عن تغيير شعاره أيضًا، وهو ما أثار ردود فعل متباينة بين الجمهور، رغم تأكيد الإدارة أن الشعار الجديد تم اختياره بعد تصويت رسمي شاركت فيه الجماهير. هذه الحالة تعيد طرح الإشكالية ذاتها: هل تكفي المشاركة الشكلية لإقناع الناس بهوية جديدة، أم أن المسألة أعمق من مجرد تصويت رقمي على شكل ولون؟
تُظهر دراسة صادرة عن شركة «Binder» أن إعادة بناء الهوية تستغرق في المتوسط سبعة أشهر، ويُعدّ التواصل مع الجمهور ثاني أكبر التحديات التي تواجه فرق التسويق بعد تحديث الأصول البصرية. فمشروع الهوية لا يمكن اختزاله في تغيير الألوان أو الشعار، بل يتطلب العودة إلى جوهر العلامة وإرثها، أي الحفاظ على قيمها الأصلية والرمزية المتجذّرة في أذهان الناس، حتى في ظل تطوير الشكل والأسلوب. كما يحتاج إلى انسجام بصري كامل بين مختلف عناصر الهوية، من الشعار إلى الحملات الدعائية، مرورًا بالتصميم الداخلي والخارجي، بطريقة لا تثير التناقض أو التشويش لدى المتلقين. والأهم من ذلك كله، أن تتحوّل الهوية الجديدة إلى تجربة محسوسة يراها الناس ويلمسونها في نقاط التفاعل اليومية، بدءًا من المتاجر إلى التغليف، وصولًا إلى طريقة تقديم الخدمة أو المنتج.
المشكلة الأبرز في مشاريع الهوية الفاشلة أنها كثيرًا ما تنطلق من قرارات فردية أو رغبات شخصية من قيادات عليا تتعامل مع العلامة كامتداد لذوقها، لا كامتداد لجمهورها. في المقابل، تظهر تجارب عالمية ناجحة مثل Uber وMailchimp، كيف يمكن لإعادة تصميم الهوية أن تتحول إلى مشروع استماع واستيعاب. فعندما غيّرت Uber هويتها عام 2016، لم تكتفِ بتعديل الشعار، بل أجرت دراسات لفهم ما يربط المستخدمين بالعلامة في كل بلد. أما Mailchimp، فقد صاغت هويتها الجديدة استنادًا إلى نبرة جمهورها، فجاء التغيير نابعًا من الداخل لا مفروضًا من الأعلى.
وتؤكد دراسة صادرة عن Impact Branding أن 96 % من مشاريع الهوية التي لا تبدأ باستطلاع المستخدمين تفشل في تحقيق القبول خلال عامها الأول. كما كشفت دراسة محلية صادرة عن مركز The Day After أن 62 % من السوريين يرون أن ما يجعلهم يشعرون بالهوية ليس الشعار أو الألوان، بل العدالة، وتوفّر الخدمات، والاعتراف بحقوق المواطنة.
الهوية ليست واجهة، بل علاقة. ليست مجموعة ألوان وخطوط، بل انعكاس لتجربة معيشة وذاكرة جمعية. نجاح الهوية الجديدة لا يقاس بجمال الشعار أو عدد مرات تداوله، بل بقدرته على أن يصبح امتدادًا حقيقيًا لما يعيشه الناس، وما يطمحون إليه. فالشعار قد يكون بداية لقصة جديدة، لكنه لا يكفي وحده لصناعة شعور بالانتماء، إن لم يُصغَ من داخل الناس وبأدواتهم.
فالهويّة ليست شعارًا نُطلقه، بل واقعًا نعيشه. ليست مجرّد تصميم جديد، بل وعد بمستقبل مختلف. ولهذا، فإن ما ننتظره من سوريا اليوم ومن كل جهة تعلن عن هوية جديدة ليس مجرد إعلان عن هوية جديدة، بل إن ترسم ملامح واقع جديد يستحق تلك الهوية.