د. الجوهرة بنت فهد الزامل
«من العمل الاجتماعي إلى قيادة إستراتيجية للتغيير»..
في مقالتي السابقة «العمل الاجتماعي: رافعة إستراتيجية للتحول الوطني»، قدمت تصورًا يعيد صياغة السياسات الاجتماعية لتمكين الإنسان وتعظيم الأثر المجتمعي بما يتماشى مع مرتكزات رؤية السعودية 2030 .
واليوم، أتناول تحديًا هيكليًا رئيسيًا: غياب نموذج وطني موحّد للحوكمة الاجتماعية، مما يؤدي إلى تشتت الجهود وضعف التنسيق بين الجهات الفاعلة.
التحديات البنيوية الراهنة
1 - تداخل الأدوار بين وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، مجلس شؤون الأسرة، والقطاع غير الربحي، مما يخلق فجوات تنسيقية مزمنة.
2 - ضعف التكامل الرقمي وغياب منصة موحدة لتحليل البيانات وقياس الأثر.
3 - التركيز على مؤشرات كمية دون تطوير مؤشرات نوعية كجودة الحياة والعدالة الاجتماعية.
بحسب تقرير التنمية الاجتماعية (2023)، 58 % من البرامج الاجتماعية لم تُقيَّم أثرها النوعي بشكل دقيق، مما يؤكد الحاجة لإصلاحات هيكلية في الحوكمة.
4 - انخفاض مشاركة المجتمع في تصميم وتقييم البرامج الاجتماعية.
5 - نقص الكفاءات القيادية في مجال السياسات الاجتماعية وصنع القرار.
رؤية جديدة للحوكمة الاجتماعية
الحوكمة الاجتماعية ليست مجرد آلية إدارية، بل إطار استراتيجي لقيادة التغيير المجتمعي، يقوم على أربعة مرتكزات رئيسية:
- وضوح الأدوار والمسؤوليات: للحد من التداخل وضمان التكامل.
- الشفافية والمساءلة: لبناء الثقة وقياس الأداء.
- الاستناد إلى البيانات والتحليل: لتوجيه الموارد بشكل فعّال.
- مشاركة المجتمع: لضمان استجابة السياسات للاحتياجات الحقيقية.
المجلس الوطني للحوكمة الاجتماعية: المظلة التنسيقية
استجابةً للحاجة إلى تعزيز التنسيق بين الجهات الفاعلة في العمل الاجتماعي، أقترح إنشاء «المجلس الوطني للحوكمة الاجتماعية» كمظلة تنسيقية موحدة تحت إشراف مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، وبرئاسة وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية.
ويضم في عضويته:
- مجلس شؤون الأسرة لتعزيز السياسات الأسرية.
- القطاع غير الربحي كشريك مستقل.
- الجهات ذات العلاقة لضمان التكامل القطاعي.
يرتكز هذا النموذج على ربط العمل الاجتماعي بالقطاعات الحيوية مثل الصحة، والتعليم، وسوق العمل، مما يعزز التكامل ويمنح المجلس صلاحيات تنفيذية قوية.
الحلول العملية المقترحة
1 - إنشاء المجلس الوطني للحوكمة الاجتماعية: كهيئة تنسيقية تضمن وحدة التوجّه وتكامل السياسات الاجتماعية والاقتصادية.
2 - إطلاق منصة «تمكين» الذكية: منصة رقمية موحدة لتحليل البيانات ورصد الفجوات وتوجيه الدعم بناءً على الاحتياج.
3 - تطوير مؤشر وطني للتمكين المجتمعي: يقيس جودة الحياة، العدالة الاجتماعية، ومستوى تمكين الفئات المستهدفة.
4 - برنامج قادة وسفراء الحوكمة: لتأهيل جيل جديد من الشباب لقيادة العمل المجتمعي وتقييم الأثر.
5 - جائزة وطنية للحوكمة الاجتماعية: لتحفيز التنافسية وربط التمويل بمستوى الالتزام بمبادئ الحوكمة.
خارطة طريق تنفيذية
- المرحلة الأولى (6 أشهر): تأسيس المجلس، إطلاق نسخة تجريبية من منصة «تمكين»، وتشكيل لجنة تطوير المؤشر.
- المرحلة الثانية (سنة): تدريب القادة، اختبار المؤشر في نماذج تجريبية، وتوسيع التكامل الرقمي.
- المرحلة الثالثة (سنتان): ربط التمويل بمستوى الحوكمة، تعميم المؤشر والمنصة، وإطلاق الجائزة على المستوى الوطني.
إدارة المخاطر وآليات التخفيف
يشمل النموذج المقترح عدة تحديات محتملة، مع آليات واضحة لمعالجتها:
1 - مقاومة التغيير
يُعالج هذا التحدي من خلال تطبيق تدريجي للمبادرات، مصحوبًا ببرامج تدريبية تحفيزية تدعم تبني المفهوم الجديد.
2 - ضعف جودة البيانات
يُخفف عبر التكامل الرقمي وربط منصة «تمكين» بقاعدة بيانات الجهات الحكومية لضمان موثوقية التحليل وصحة القرار.
3 - تضارب المصالح بين الجهات
يتم ضبطه من خلال الإشراف المباشر من مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، لضمان حيادية القرارات وتكامل الأدوار.
4 - بطء التنفيذ
تتم معالجته عبر اعتماد مؤشرات أداء واضحة، ومراجعات مرحلية لتسريع الإنجاز وضمان الاتساق مع أهداف النموذج.
نماذج دولية ملهمة
- سنغافورة: هيئة «SG Enable» الموحدة لجهود دعم ذوي الإعاقة.
- النرويج: نموذج «النافذة الواحدة» لتقليل الهدر وزيادة رضا المستفيدين.
- كندا: المجالس الاستشارية المجتمعية التي تمكّن المواطنين من المشاركة الفعالة.
دعوة لصنّاع القرار
نجاح هذا النموذج يتطلب قيادة مركزية واضحة، وشراكة فعّالة بين الجهات الرسمية والمجتمع المدني، ضمن إطار مرن يحفظ استقلالية الشركاء ويعزز التكامل.
الحوكمة الاجتماعية ليست مجرد إصلاح إداري، بل رافعة استراتيجية لتحويل السياسات إلى أدوات تمكين وعدالة اجتماعية، تمثل الجسر الذي يربط التنمية بالإنسان ويرتقي بجودة حياة المواطن.
الأثر الاقتصادي والاجتماعي المتوقع
تعزيز الحوكمة الاجتماعية لا يقتصر على تحسين التنسيق الإداري، بل يمتد ليكون رافعة أساسية لتحقيق عوائد اقتصادية واجتماعية ملموسة، من خلال:
- تخفيض الهدر المالي الناتج عن تداخل البرامج وتكرار الجهود.
- رفع كفاءة تخصيص الموارد بما يتناسب مع الاحتياجات الحقيقية للمجتمع.
- زيادة تمكين الفئات المستهدفة، ما ينعكس إيجابياً على سوق العمل والنمو الاقتصادي.
- تحسين جودة الحياة وتقليل الفجوات الاجتماعية، مما يقلل من تكاليف الرعاية الصحية والاجتماعية طويلة الأمد.
هذه النتائج تدعم رؤية 2030 في تحقيق تنمية مستدامة ومتوازنة تنعكس إيجابياً على الفرد والمجتمع والاقتصاد الوطني.
ندعو صنّاع القرار إلى دراسة هذا النموذج وتبني مكوناته بشكل تدريجي ضمن مقاربة تكاملية، قابلة للتطوير حسب السياق الوطني واحتياجات المرحلة، لتعزيز التنمية الاجتماعية المستدامة التي ترتقي بحياة الجميع وتعكس طموحات رؤية 2030.
** **
- متخصصة في السياسات والتخطيط الاجتماعي