د.عبدالله بن موسى الطاير
منذ أن أرسي نظام الدولة الحديثة عام 1648م، دأبت الجهات الفاعلة غير الحكومية، وأعني الجماعات المسلحة والميليشيات والمنظمات الإرهابية، على تقويض السلم والأمن الدوليين. حدث ذلك في الماضي، ويحدث في عالم اليوم، وأنهكت المليشيات الدول البدائية ذات الموارد المحدودة وبطيئة الحركة قديماً، والدول الأعظم في عالمنا المعاصر. من قراصنة القرن السابع عشر الميلادي إلى جماعات معاصرة مثل حزب الله والقوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك) وبوكو حرام. هذه الكيانات تستغل ضعف الحوكمة في الدول الهشة، وتستند إلى رعاية بعض الدول لها، وتستغل الحماسة الأيديولوجية لنشر الفوضى. عندما تدقق في دوافعها وأجنداتها تجد أنها إلى حد كبير تعمل بالوكالة مستأجرة لخدمة أطراف أخرى تعمل على تعطيل الاقتصادات، وتقويض سيادة الدول المستهدفة، ولا يكاد يلوح في الأفق حلول جذرية لمعالجة هذه الآفة.
قدرة تلك الجماعات على التسويق لخدماتها في الحرب بالوكالة، والمحافظة على سرية عملائها، وبراعتها في تعكير صفو الأمن والسلم بأثمان بخسة، والتكيّف القتالي باستخدام الطائرات بدون طيار أو الهجمات الانتحارية تجعل هزيمتها أصعب من هزيمة الجيوش التقليدية.
تاريخيًا، زعزعت الجهات الفاعلة غير الحكومية استقرار المجتمعات عبر القارات. في القرنين السابع عشر والثامن عشر، عطَّل القراصنة التجارة العالمية، واستولوا على السفن، وابتزّوا الدول الساحلية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط. تسببت هجماتهم في خسائر كبيرة للدول الأوروبية سواء في التجارة، أو في تمويل الحملات البحرية التي أجبرهم القراصنة على القيام بها، مما صرف الموارد بعيداً عن التنمية، واستقرار ورفاهية الشعوب. بحلول القرن التاسع عشر ظهر نمط جديد من هؤلاء الفاعلين، إذ حرضت جماعات ثورية مثل كاربوناري في إيطاليا على الانتفاضات، مما أدى إلى زعزعة استقرار الممالك وإشعال فتيل العنف الذي أودى بحياة الآلاف من الأبرياء.
أطالت هذه الجماعات أمد الصراعات، وزعزعت الثقة في الحكومات القائمة، وأخرت الانتعاش الاقتصادي في المناطق المتضررة، كما هو واضح بجلاء في وسط إفريقيا والقرن الإفريقي. أما في الشرق الأوسط فحدث ولا حرج، إذ تواصل المليشيات إحداث الفوضى وزعزعة الاستقرار، وحرمان الدول من موارد ضخمة تستهلك في مواجهة تلك الجماعات على حساب البناء والتنمية.
خارج الشرق الأوسط، تُلحق المليشيات المسلحة أضرارًا مماثلة، ففي كولومبيا، أدى تمرد القوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك) الذي استمر 50 عامًا ضد الحكومة، ممولا من تجارة المخدرات، إلى مقتل أكثر من 220 ألف شخص ونزوح 7 ملايين بحلول عام 2016م. وفي قارة أخرى، وتحديدا في نيجيريا، أسفرت حملات بوكو حرام منذ عام 2009م عن مقتل أكثر من 35 ألف شخص وتشريد 2.6 مليون، وتدمير الزراعة والتعليم وتعطيل التنمية في الشمال الشرقي.
إذا حيّدنا التدخل الخارجي، فإن هذه الجماعات تزدهر في ظل فراغ السلطة، وضعف الحكومات، واستيراد أنظمة حكم لا تلائم ظروف بعض الدول، وإنما من أجل الحصول على الدعم المشروط من المانحين. إلا أن الحياد في هذا السياق أصبح الاستثناء، فتلك الجماعات تعمل بالوكالة عن دول وعن كيانات ضخمة ذات مصالح ذاتية، في ظل تراخ تام من المجتمع الدولي وربما عجز عن تبني حلول مستدامة.
من وجهة نظر مثالية بحتة، فإن المبدأ الذي تنطلق منه كل الحلول هو احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وهو ليس تعبيرا جماليا تتزين به الكلمات والبيانات الرسمية، وإنما مبدأ أساس من مبادئ الأمم المتحدة التي تعاقدت الدول على ميثاقها. مهمة المواجهة تعاقدية بين الدول، والتحرك بحزم من قبل المجتمع الدولي وتقوية الدول الضعيفة من خلال إصلاح الحكم والمساعدات الاقتصادية يمكن أن يقلل من المساحات التي تزدهر فيها هذه الجماعات. كما أن فرض عقوبات مُحددة على الدول الراعية، إلى جانب تعطيل شبكات الأسلحة والتمويل غير المشروعة، أمرٌ بالغ الأهمية إلا أنه غير كاف، وإنما يتطلب ردفه بالعمل العسكري، عندما يكون ضروريا، لإزالة أو إضعاف هذه التهديدات.
ليس هناك وصفة واحدة فاعلة للقضاء على هذه الجماعات، لكن العمل التكاملي من خلال الدول الفاعلة، ومجلس الأمن، بوضع خطة إستراتيجية عالمية مُنسقة، تُعزز قدرات الدول، وتُكافح الأيديولوجيات المتطرفة، وتُعالج الأسباب الجذرية كالفقر والطائفية، وتباشر المظالم التي ترددها تلك الجماعات لتجنيد الأتباع، يعد خطوة في الاتجاه الصحيح للحد من الفوضى التي تخلفها المليشيات المسلحة، والحفاظ على استقرار الدول وسيادتها وصيانة السلم والأمن الدوليين وتحقيق أهداف التنمية المستدامة.