في عام 1416هـ/ 1996م صدر في سلطنة عُمان الشقيقة معجم طبي بعنوان «كتاب الماء»، كُتب على غلافه بأنه أول معجم طبي لغوي في التاريخ. وهو من تأليف أبي محمد عبد الله بن محمد الأزدي، المتوفى سنة 456هـ/ 1046م. وذكر محقق الكتاب أنه حصل على مخطوطتيه من مكتبة الشيخ بن عاشور أحمد بن عبد القادر التيهرتي في الجزائر.
ووضع في آخر مقدمة التحقيق صورتين باهتتين على أنهما صفحتان من مخطوطتي الكتاب. وكتب مقدمة طويلة في إطراء الكتاب، قال فيها بأن فيه علاجات لكل من السفلس والإيدز، وأنه استشار أطباء حول هذا، دون أن يذكر لنا في أية صفحة أو فقرة وردت هذه العلاجات. ثم كتب المحقق مقالات مطولة يمدح فيها الكتاب، ويحاول أن يثبت أن مدين القوصوني (عاش بين 969- 1044هـ، 1562- 1634م) سرق محتويات «كتاب الماء».
فيما بعد اتضح أنه لا توجد مكتبة باسم الشيخ التيهرتي المذكور، في الجزائر كلها. والصورتان المفترض أنهما من مخطوطتي الكتاب لا تنتميان إلى أي معجم طبي. والمقدمة الطويلة والمقالات التي كتبها المحقق عليها ملاحظات عديدة.
حول مكتبة التيهرتي
مكتبة التيهرتي سأل الباحثون العرب زملاءهم الجزائريين عنها، فأنكر هؤلاء وجودها. وقام الباحث العماني الشيخ سلطان بن مبارك الشيباني(1) بالسفر إلى الجزائر خصيصا ليقف بنفسه على حقيقة وجود هذه المكتبة. فلم يكن لها أي وجود، لا في الماضي ولا في الحاضر. لنقرأ ما كتبه حول الموضوع: «لأجل ذلك شددتُ رحالي في ربيع الآخر 1429هـ قاصداً وهران من أرض الجزائر، لزيارة مكتبة الشيخ بن عاشور أحمد بن عبد القادر التيهرتي، وسألت عنها أهل التراث وخبراء المخطوطات بالجزائر، فلم أجد المكتبة رأساً، فضلا عن الوقوف على مخطوطاتها!! وظل تواصلي مستمراً مع الأساتذة الجزائريين هنالك، طمعا في الوصول إلى خبر عن هذه المكتبة وصاحبها، غير أني لم أظفر بشيء يذكر حتى الآن»(2).
صور المخطوط
أما الصورتان الباهتتان اللتان وضعهما المحقق في ختام مقدمة تحقيقه فاتضح أن إحداهما الصورة الأولى (المثبتة في ص 23 من المطبوع) هي صورة إحدى صفحات كتاب «المُغرب في ترتيب المُعرب» للمطرزي، وهـو من معاجم اللغة! وأن الصورة الثانية (المثبتة في ص 25 من كتاب الماء المطبوع) هي صورة مخطوطة لأحد شروح ديوان المتنبي، ونقرأ فيها شرحًا لقصيدته الدالية التي مطلعها:
كم قَتيلٍ كمَا قُتِلتُ شَهيدِ
لِبَياضِ الطُّلى وَوردِ الخُدودِ
اكتشف هذا باحث مدقق كفؤ في قراءة المخطوطات وضليع في معرفة نصوص كتب التراث، وهو الشيخ سلطان الشيباني السابق ذكره. وقد فصّل للقارئ النص المكتوب في كل من الصورتين، ليثبت أن ما أتى به محقق «كتاب الماء» لا ينتمي إلى نصوصه (3).
في الطبعة الثانية للكتاب (صدرت سنة 1436هـ/ 2015م) سحب المحقق الصورتين، ووضع بدلهما صورة باهتة أخرى، يقول عنها الأستاذ سلطان الشيباني: «على كل حال؛ بعد كل هذه التساؤلات وعِدتُ بالجواب عليها في مقدمة الطبعة الثانية لكتاب الماء، وظللتُ مرتقبا صدورها طمعا في إرواء الغليل، فصَدَرَت عن وزارة التراث والثقافة بسلطنة عمان سنة 1436هـ/ 2015م، ولم أجد في ثناياها جوابا واحدًا.
أما صُوَر الأصول المخطوطة للكتاب -التي هي في صدارة مطالبي- فكان الجواب عليها في هـذه الصورة المرفقة بمقدمة الطبعة الثانية.. ولا أدري: هـل استطاع القارئ أن يَتبيَّنَ منها شيئا أو لا؟ لأنها في المطبوع باهـتة وغير واضحة، غير أن قليلا من تدقيق النظر فيها يقودني -دون تردد- إلى القول إنها مكتوبة في زماننا هـذا، ولا تَرقَى حتَّى أن تكون صورة من نسخة القرن الحادي عشر، فضلا عن أن تكون صورة من العتيقة المنسوخة في القرن السادس أو قبله» (4). إذن صورة مزيفة ثالثة، بدل الصورتين المزيفتين في الطبعة الأولى.
توجّه الباحثون إلى محقق «كتاب الماء» بأسئلة حول الصور الباهتة في مقدمة تحقيقه فقال بأنه «يحتفظ بصورتين فقط، نفس الصور التي يلتقطها في نهاية مقدمته». (وهما الصورتان اللتان ثبت عدم انتمائهما إلى الكتاب..!). وحول عدم وجود مكتبة تنسب إلى رجل اسمه التيهرتي في الجزائر كلها، قال لهم: احترقت..!(5)
لنفرض أنه كانت هناك مكتبة بهذا الاسم واحترقت، لماذا لم يسمع الجزائريون بها مع كونها تحتوي على النفائس؟ لماذا لم تسجل حادثة الاحتراق في أية وسيلة من وسائل الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي؟ لماذا كل الجزائريين المحترفين في مجال المخطوطات لا يعرفونها؟ ثم لماذا لا تضع صورة واضحة لصفحات المخطوطة؟ لماذا تضع صوراً باهتة لمخطوطات لا علاقة لها بالكتاب، وتكتب على الصورة الأولى: «صورة من النسخة الأم» وعلى الأخرى: «صورة من نسخة م»؟؟ ولماذا أزلت الصورتين في الطبعة الثانية، وأتيت بثالثة لا علاقة لها أيضاً بالكتاب؟؟ إذا لم يكن هذا هو التزييف بعينه، فكيف يكون التزييف؟
الشيخ الأستاذ سلطان الشيباني يلخص رأيه في الكتاب قائلا: «وسأستبعد شيئا اسمه (كتاب الماء) من دراساتي وأبحاثي، حتَّى أقف على ما يدفع الشك ويرفع الإشكال»(6).
في الطبعة الثانية من الكتاب يؤكد المحقق أن الصورتين (اللتين وضعهما ثم أزالهما) هما من صلب كتاب الماء. فيقول (ص 78-79): «ولما لم نكن نملك نسخاً مصورة منه.. .. لذلك حين تهيأت الظروف لنشر الكتاب، كتبنا إلى من ورث المكتبة برغبتنا في الحصول على صور من المخطوطتين، فزودونا مشكورين بصور من المجلدات التي تضمها. وهذا ما قدروا عليه. لكن ذلك لم يقنعنا، فلم تتوقف محاولاتنا للحصول على صور غيرها، حتى وفقنا لذلك، ولكن بعد صدور الطبعة الأولى».
أول معجم طبي لغوي في التاريخ
«كتاب الماء»، كُتب على غلافه بأنه أول معجم طبي لغوي في التاريخ. وقد ردّ عليه الباحث حسان فلاح أغلي قائلا: «أوّل ما يطالعك من الكتاب صفحة الغلاف، وقد كتب فيها بعد عنوان الكتاب: (أوّل معجم طبي لغوي في التاريخ) ولا يخفى ما في هذه العبارة من مبالغة، ولا سيّما أنّه لم يذكر لغة هذا المعجم، ولو قال: إنه أوّل طبيّ لغويّ عربيّ لبقيت عبارته موضع شكّ فكيف وقد جعلها فضفاضة على هذا النحو؟! إضافة إلى أنّ فكرة المعجم تعني الشمول والاستقصاء، وقد بيّنت أنّ الكتاب ليس كذلك، وكان من الأفضل أن يقدم الكتاب على أنّه كتاب في الطب والأدوية مرتّب على حروف المعجم، وهذا ما نصّ عليه المؤلّف في ترجمته»(7).
نضيف هنا أن المعاجم الطبية اللغوية السابقة لكتاب الماء تشمل: (1) المعاجم المبكرة من تأليف حنين بن إسحق (توفي سنة 260هـ/ 873م) وعلماء مدرسة جنديسابور في القرن 3هـ 9م. (2) الأقرباذين، للكندي (ت حوالي 260هـ/ 873م). (3) الاعتماد في الأدوية المفردة، لابن الجزار (ت 369هـ/ 979م). (4) مفاتيح العلوم، للخوارزمي (ت 387هـ). (5) التنوير في الاصطلاحات الطبية، للقمري (ت 390هـ)، (6) كتاب النبات، لأبي حنيفة الدينوري (ت توفي حوالي 282هـ). وهي منشورة بتحقيقات جيدة، فيما عدا معاجم حنين وعلماء جنديسابور فهي مفقودة.
في الطبعة الثانية من كتاب الماء يشكك في وجود معاجم طبية قبل الكتاب المذكور. فيقول (ص 15-16): «وحين طالبهم بعض المتابعين ذكر كتب ومؤلفات سبقت كتاب الماء، في نهجه ومادته ومضمونه، لم يجدوا شيئا. ولجأ فريق منهم إلى ذكر عناوين مؤلفات يونانية زعموا أنها معجمات طبية. ولنا على هذا الزعم اعتراضان: الأول: إن عناوينها لا تدل على كونها معجمات طبية لغوية، ولأنها ضائعة فلا أحد يستطيع أن يجزم بموضوعها. الثاني: وعلى فرض وجود معجمات طبية سبقت كتاب الماء الذي عاش مؤلفه في القرن الخامس للهجرة، وبالرغم من أني لست مقتنعاً بهذا السبق، ولكن فلأفترضه جدلا فإن عبارتنا تعني أولية كتاب الماء لا باعتباره معجما طبيا فحسب، ولا باعتباره معجما لغويا فقط .. إلخ».
المعاجم التي ذكرناها هنا (وهي مطبوعة منشورة، وليست ضائعة) هي معاجم طبية ولغوية في آن معاً. فمثلا أبو حنيفة الدينوري علاّمة في اللغة.
الأمراض الجديدة
يقول محقق الكتاب في مقدمة التحقيق (ط1، ص19): «فقد ذكر السفلس والإيدز بأوصافها وأعراضها، وتحدث عن إمكانية علاجها». ولا يذكر في أية صفحة أو مكان من الكتاب. وفي مقالة مطولة له في صحيفة «الحياة» اللندنية (يومي 13-14/ 9/ 1999) يقول إنه استشار أطباء في محتويات الكتاب. وهنا يردّ عليه باحث في الجريدة نفسها قائلا: «ولو كان فعلا استشار أطباء حقيقيين لعرف أن السفلس لم يعرف إلا بعد اكتشاف أميركا، وأن فيروس الإيدز ناتج عن طفرة وراثية لم تحصل إلا حوالي عام 1980م. وأخشى أن ينسب كاتبنا إلى الأزدي اختراع الإنترنت والهاتف الخلوي النقال» (8).
هذا التعليق حول تاريخ ظهور السفلس والإيدز نُشِر سنة 2000. والمحقق كان من كتاب الجريدة التي نشرته، وبالتالي اطلع عليه. لكنه في الطبعة الثانية من الكتاب (2015، ص 32 و49) يكرر القول بأن كتاب الماء يقدّم علاجات لهذين المرضين، وكالعادة لا يدلنا على الصفحات أو الفقرات التي وردت فيها العلاجات.
القوصوني وكتاب الماء
في مقال طويلة له بجريدة الحياة يتحدث المحقق مطولا عن أن القوصوني (عاش بين 969 -1044هـ، 1562- 1634م. وهو مؤلف معجم «قاموس الأطباء وناموس الألباء») أخذ مادة كتابه من كتاب الماء، ويتهمه بالسرقة، وأنه من عصر المماليك السيئ في نظره، وأن معجم القوصوني منه نسخة مخطوطة وحيدة في دمشق (9)، علماً بأن نسخ هذا المعجم لا تقل عن ستة حول العالم.
وقد ردّ عليه كاتب جريدة الحياة قائلا:
«(1) يقول كاتبنا في مقالة كتبها في عدد 31/ 10/ 1996 عن القوصوني بأن الأخير عاش في عصر المماليك، ولا ندري هل كلّف نفسه بالنظر في تاريخ ميلاد ووفاة القوصوني، وهل يعرف الفرق بين عصر المماليك والعثمانيين أم لا.
(2) قوله في نفس المقالة بأن معجم القوصوني منه نسخة وحيدة في دمشق، مع أن منه نسخا عدة في غير دمشق!! قد يكون الأمر أخف لو قال بأنه لا يعرف من نسخه إلا النسخة التي نشرت بالتصوير في دمشق.
(3) في نفس مقالة القوصوني يتحدث كاتبنا عن المماليك على أنهم أعداء العروبة والإسلام. مع أن أي تلميذ في التاريخ يعرف أنهم هم الذين صدوا التتار في عين جالوت بعد أن تواطأ مع المغول خونة بغداد من أمثال الوزير العلقمي. والمماليك هم من أبلوا البلاء الحسن في الحروب الصليبية وأسروا ملوك الصليبيين وهاجموا قبرص وكريت ردا على الحملات الصليبية التي انتهت في عهدهم وليس في عهد الأيوبيين. والمماليك هم أول من بدأ بالدفاع عن الحرمين ضد البرتغاليين قبل مجيء العثمانيين.
(4) يقول الكاتب في نفس مقالة القوصوني بأن الأخير أخذ معلوماته من الأزدي. والذي يراجع كتاب الأزدي يجد العكس!! حيث يتحدث «كتاب الماء» عن البنّ الذي لم يعرف إلا في القرن 9هـ حديثا منقولا عن القوصوني بتحريف. وإذا علمنا أن الأزدي من أهل القرن الخامس الهجري فيمكن لنا أن نستنتج أن «كتاب الماء» قد يكون كتابا مزيفا» (10).
المراجع المعتمدة في تاريخ القهوة تفيد بأنها لم تعرف كمشروب قبل بداية استعمالها في اليمن في القرن التاسع الهجري، الخامس عشر الميلادي. وأنها لم تنتشر إلا في القرن التالي(11). والنص الذي ذكره مدين القوصوني هو من تأليف ابن عمه بدر الدين محمد بن محمد القوصوني (توفي سنة 931هـ. وهو كتب هذه الرسالة سنة 928هـ) (12). أما كتاب الماء فيورد نفس النص منسوبا إلى ابن سينا، الذي توفي سنة 427هـ/ 1037م. وطبعا لا يوجد النص في أيٍّ من كتب ابن سينا التي بين أيدينا.
ختاماً: المكتبة التي تحتوي على مخطوطتي كتاب الماء ليس لها وجود في الواقع. وصور المخطوطات التي وضعها المحقق في الكتاب وصرّح بأنها من مخطوطتي الكتاب لا علاقة لها بنص الكتاب. ومؤلف الكتاب المتوفى سنة 456هـ يتحدث عن القهوة والسفلس (الزهري) والإيدز قبل قرون من ظهورها. فهل نحن نتحدث عن كتاب تراثي أو عن رواية خيالية؟ نترك الجواب للقارئ.
المراجع
(1) الشيخ سلطان بن مبارك الشيباني يُعد من أبرز المتخصصين في التراث العماني المخطوط، ويشغل حالياً منصب رئيس مجلس إدارة مركز ذاكرة عُمان، التي تصدر عنه مجلة «الذاكرة».
(2) الشيباني، سلطان بن مبارك. أمالي التراث، مسقط: ذاكرة عمان، 2015، ص 343 -344.
(3) الشيباني، المرجع السابق، ص 340-343.
(4) الشيباني، سلطان بن مبارك. خلاصة القول في كتاب الماء، مسقط: محبوب للنشر الرقمي، 2021، ص14.
(5) سالم، ميلا محمد. «المجهول الكبير لمجريات مخطوطات كتاب الماء لابن الذهبي»، مجلة «نزوى» (سلطنة عُمان)، العدد 105، يناير 2021، ص105.
(6) الشيباني، خلاصة القول في كتاب الماء، المرجع السابق، ص16.
(7) فلاح أوغلي، حسان. «كتاب الماء (معجم طبيّ لغويّ)»، مجلة «التراث العربي»، دمشق، العدد 78، سنة 2000، ص 111-120.
(8) الحاثي، همام عبد الله. «أخطاء كاتب في صفحة (تراث)»، جريدة «الحياة»، صفحة «تراث»، العدد 13611، 17/ 6/ 2000.
(9) حمودي، هادي حسن. «ابن القوصوني يمسخ كتاب الماء للأزدي»، جريدة «الحياة»، صفحة «تراث»، العدد 12302، 31/ 10/ 1996، ص21.
(10) الحاثي، المرجع السابق.
(11) مقشر، عبد الودود. «نشأة القهوة العربية وانتشار زراعة البن في اليمن ما بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر الميلادي»، مجلة «أبحاث»، كلية التربية، جامعة الحديدة، العدد 6، 1437هـ/ 2016م، ص 245-290. ونشر المقال في كتاب «القول المكتوب في تاريخ الجنوب» (ج28)، أد. غيثان علي جريس، 1444هـ/ 2023م. ونشِر أيضا في جريدة «نيوز يمن» الإلكترونية. مراجع تاريخ القهوة عديدة، ولكني أعتبر بحث أ.د. عبد الودود مقشر أكثرها دقة وصحة معلومات، بالإضافة إلى كونه بحثا حديثا في تاريخ كتابته.
(12) الشيباني، خلاصة القول في كتاب الماء، المرجع السابق، ص 6-11. رسالة القوصوني نجدها في «البدر السافر» للعيدروس، وفي معجم مدين القوصوني المذكور، وفي نص مستقل مخطوط بهولندا.
** **
- د. لطف الله قاري