د.إسحاق بن عبدالله السعدي
كان الواحد منا يجد متسعاً في وقته ليقف على قارعة الطريق يدير الحديث مع من يجده في طريقه في لقاءٍ عابر يتجاذبان فنون الحديث بمتعة وطرافة وعفوية وأريحية دون سآمةٍ ولا ملالة، ومن غير شعورٍ بندامةٍ على ما تقضى من وقت أو قيل من كلام مهما كان متحرراً من الاعتبارات والاحترازات في ذلك اللقاء المفتوح المرتهن بالمصادفة، فالأصل سلامة النية والاستقامة وحسن الظن لا كما نشعر به الآن من ضيقٍ في الوقت وتحسس من التعاطي والبوح والمزاح لدرجة أن المرء إن صادف آخر على ناصية طريق أو تقابلا في قاعة انتظار تجاهله إن أمكنه ذلك أو اختزل الحديث معه في رد التحية باقتضابٍ شديد واعتذارٍ محبط ومحير:
(وقالَ كُلُّ خَليلٍ كُنْتُ آمُلُهُ
لا أُلْهِيَنَّكَ إنِّي عَنْكَ مَشْغولُ)
باتت الأوقات وكأنها أثمن من تمضيتها في الإمتاعٍ والمؤانسة مع الأصدقاء والأقارب والجيران والمعارف والأحباب، لم تعد الأوقات الآن كتلك التي كنا نسعد بها ونقضيها على ذلك النحو العفوي السمح والتي تمر مترعةً بالأنس والألفة كغذاءٍ روحي وتواصل إنساني حضاري ببعده الأخلاقي والاجتماعي والنفسي ومهما طرأ التعقيد في طبيعة الحياة اليومية وازدادت صعوبتها فلا ينبغي أن تفقدنا تلك الحميمية تحت طائل المسوغات والمبررات المستحدثة لأن ذلك كله يقود إلى القطيعة وجفاف مشاعر الود والتواصل ،كما أنه من المؤشرات الصارخة والمخيفة لمعترك الحياة الجديدة في ظل التقنيات والماديات التي تجاوزت كونها وسائل وأساليب محايدة لتعمل على تكوينٍ ثقافي مغاير من أبرز سلبياته وآثاره الملموسة ارتهان المستخدم لتلك الوسائل والأساليب فبدلاً من أن تكون في خدمته أصبح هو في خدمتها بصفةٍ أو أخرى يضاف لذلك تقلص البركة في الأوقات وما يتراءى من تغيُّر النفوس وخضوعها لأغراضٍ شخصية وأعراضٍ مرضية وعقدٍ نفسية تبعث على الأسى والحسرة، كما لو أن الآلة استلبت منّا قدراً من المشاعر والأحاسيس.
الدواء لهذه الظاهرة والشفاء منها يكمن في تمثل هدي الإسلام واستشعار متانة أخلاقه في العلاقات الخاصة والعامة من ذلك حثه على إفشاء السلام على من عرفت ومن لا تعرف مهما أعرض من تسلم عليه ولم يرد التحية بمثلها كما هو متفش في الآونة الأخيرة إذ يكاد من يلقي السلام امتثالاً لسنة المصطفى- صلى الله عليه وسلم- في الطرقات أو حيث يكون البدار به سنة مثار تساؤل، وقد يخشى المبادر أن يظن به الظنون فيترك هذا الأمر النبوي الموقر.
من العمق بمكان في أخلاق الإسلام الأمر بالصلة حتى وإن كانت من جانبٍ واحد ووصف الهدي النبوي النبيل بأن «ليس الواصلُ بالمكافئ ولكنَّ الواصِلَ الذي إذا انقطعتْ رحمُه وصلَها» رواه البخاري.
للواحد منا أن يتصور ما الذي تورثه الصلة بهذه الطريقة السمحة التي تنم عن الصفاء والإيجابية والروح المصقولة بقيم التسامح والتعايش، لابد وأن تؤتي أكلها عاجلاً بتبادل الصلة بوازع الحياء ووخز الضمير الذي عادةً ما يسكن النفوس ويلازم الأصالة بقدرٍ أو آخر وتبقى جذوته في كيان المسلم تشتعل بالحيوية والإحساس من جديد فترد التحية بمثلها أو بأحسن منها وتصل ما انقطع بتوبةٍ صادقة وعملٍ مبرور لا ينفصم وإن لم يتحقق ذلك فبالأجر العظيم من المولى عزَّ وجل لمن يمتثل أمره ويبتغي مرضاته بصلته تلك. يؤكد الدين على هذه القيم والمعاني بالترغيب والترهيب في صلة الرحم وفي علاقة القرابة التي أولاها الإسلام عنايةً فائقة بنصوصه المحكمة كأول آية في سورة النساء {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} سورة النساء (1)، فقد قرنت هذه الآية بين تقوى الله والأرحام وجاء معناها عند المفسرين: (بصلتها فلا تقطعوها).
كذلك في الهدي النبوي الكريم الذي توافر على الأسرة والقرابة بالرعاية والتنمية وأحاطهما بقداسة وتكريم وتشريف فكان يتجه بأنواع البر والإحسان للقرابة أولاً؛ «قال أنس -رضي الله عنه-: كانت لأبي طلحة أرض، فجعلها لله- تعالى -فأتى النبي- صلى الله عليه وسلم -فقال له: «اجعله في الأقربين» فجعلها لحسان وأبي. قال أنس: وكانا أقرب إليه مني» رواه البخاري، ويحذر أشد التحذير من القطيعة لدرجة أن ورد في الحديث أن الرحم معلقة بالعرش وأنها تقول: «مَن وَصَلني وصلَه اللهُ ومَن قطعني قطعه اللهُ» رواه مسلم، بل جاءت البشارة بالخير وبطول العمر في صلة الرحم: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» رواه البخاري.
بيد إن إيقاع الحياة الجديدة بمحركاتها ومعطياتها ومنطقها ربما تسير إلى حدٍ ما في الاتجاه الخاطئ سواءً كانت ناتجاً تلقائياً غير محسوس أو من خلال موجهات مدروسة في سياق الهيمنة الثقافية المغايرة ذات الطابعٍ المادي النفعي الذي يعلي من قيمة الفرد على حساب المجتمع ويغذي فيه نعرة الاعتداد بنفسه وجعلها المحور والمرتكز لوجوده ومتعته ورفاهيته إيهاماً ومخادعةً تحت طائل سلبيات الثقافة الدخيلة، لذلك بتنا نسمع تعبيرات تنم عن هذه النزعة كعبارة: (خليك بعيد حبك يزيد) وعبارة: (الأقارب عقارب)، ونحو ذلك من العبارات التي تشيع الجفاء وتشرعن للقطيعة، حتى إذا وجد أشخاص أو حالات على خلاف هذا الوضع كانوا بمثابة المبادرات الفردية القاصرة عما يتغياه الدين الحنيف من السلام المجتمعي المؤسس على عقيدة الإسلام وعباداته وهديه وتشريعاته التي بلغت القمة في كل شيء في تكاملٍ وتوازن ورحمة ورفق، يعطي الفرد اعتباراته التامة وحقوقه الكاملة وحرياته الأساس في دائرة لا تخل بسلطة المجتمع ولا تصطدم بصلاحياته بل توائمه وتدعمه وتقويه.
** **
- باحث في الدراسات المستقبلية