العقيد م. محمد بن فراج الشهري
لا تتسق السرديات الإسرائيلية بشأن حربها على غزة وعزمها القضاء على «حماس»، مع ميل إسرائيل وتحركاتها الحثيثة نحو فتح جبهات متعددة تنذر باندلاع حرب إقليمية في المنطقة على جبهات عسكرية مفتوحة، مثل لبنان وسوريا، وربما الضفة الغربية، لن تصب في مصلحة أي طرف سوى التيار اليميني اليهودي الإسرائيلي المتشدد، وأجندة نتنياهو للبقاء في السلطة كحصانة له أمام دعوات مقاضاته في قضايا الفساد. بمعنى آخر، إن التصعيد العسكري وتعدى حدود الصراع مع حركة «حماس» يعده محركا للأحداث، كما تدعى الرواية الإسرائيلية، لن يكون سوى المخرج لأزمة الحكم الإسرائيلي العميقة التي أدت إلى إجراء خمسة انتخابات بعد فشل وانهيار ائتلافات حكومية متعددة، في ظل اندلاع المظاهرات المحتجة على مدار العامين الماضيين ضد تداعى كفاءة الحكم الديمقراطي المزعوم في إسرائيل. وبالتالي، فإن تحركات السياسة العسكرية والأمنية التي تتعدى حدود الرواية هي حجر أساس في تفنيدها وإعادة مراجعتها.
تعد سرديات دولة الاحتلال في هذه الحرب جزءاً لا يتجزأ من حرب نفسية كبرى وبناء حاجز نفسي كبير بين شعوب المنطقة وإسرائيل، وهو تكتيك استخدمته تل أبيب بامتياز في الترويج لأسطورة خط بارليف قبل حرب 1973 ومن قبلها في ضمان سيطرة العصابات اليهودية على أراضي 1948 بارتكاب المذابح، التي من أشهرها مذبحة دير ياسين وغيرها من الشهادات بعد تقادمها. المذابح التي أبادت قرى بأكملها مثل الطنطورة، والتي كشفت عنها الوثائق والشهادات بعد تقادمها.
في هذه الحرب، تمارس إسرائيل تكتيك الحاجز النفسي وحرب التخويف تجاه سكان غزة بشكل مباشر، وبشكل غير مباشر خارج حدود فلسطين، إذ تمارسها إسرائيل ابتداء ضد السكان في غزة من خلال تكتيكات إدارة العمليات العسكرية. وقد ظهرت جلية في منشورات الإخلاء وإعلان أماكن القصف في بداية العمليات العسكرية ضد القطاع، وحتى توزيع خريطة القطاع المقسمة إلى مناطق مرقمة، وإعلان المناطق المرقمة المستهدفة من القصف يوميا على المستوى الإقليمي، فإن هذه السرديات تروج لتضخيم القوة العسكرية الإسرائيلية المدعومة من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وكندا والاتحاد الأوروبي بهدف التمهيد لقبول أية ترتيبات يفرضها السياق العسكري ولو على حساب أطراف خارج غزة.
بيد أن صمود الشعب الفلسطيني أمام الاجتياح الإسرائيلي المفتوح والمجازر المتواصلة، وصمود المقاومة والتسجيلات المصورة التي تبثها للهجمات الناجحة على الآليات العسكرية الإسرائيلية وقفا كحائط صد قوي أمام تحقيق هذا الهدف من السرديات وسمحا بهامش للرواية المقابلة المدعومة بمواقف حقيقية على الأرض، وليس مجرد خطاب ادعائي حتى في ظل اختلال ميزان القوة بين الطرفين وفداحة الخسائر البشرية والمادية، وهذا تحديداً ما أعطى زخماً للسردية المقابلة وقدرتها على تحدى المغالطات.
هدفت الرواية الإسرائيلية إلى التمهيد لتغييرات ديمغرافية جيوسياسية جذرية فيما يخص محركات الصراع، ومحفزاته الداخلية والإقليمية باتت الرواية الإسرائيلية بأن هدف الحرب في غزة هو القضاء على «حماس» واستعادة أسرى يوم 7 أكتوبر، محل تشكيك أمام سياسات الأمر الواقع المتمثلة في تمادي إسرائيل في إحداث تغييرات ديموغرافية في القطاع، وتنظيم عملية ممنهجة من نقل المواطنين «الترانسفير» من الشمال إلى الجنوب في مرحلة ما قبل الهدنة، ثم من أقصى الجنوب في المرحلة التالية للهدنة الإنسانية، مع نفي مقومات الحياة في القطاع بشكل كامل بما لا يعطى مجالا للشك بأن هذه العملية الديمغرافية ليس الغرض منها هو حماية المدنيين من العمليات العسكرية لحين تحقيق هدف القضاء على «حماس»، وإنما قطع سبل الرجوع إلى مناطقهم مرة أخرى.
ارتبط إعلان خطط لإحداث تغيير جغرافي جوهري على الأرض بالحديث عن التغيير الديمغرافي، إذ أعلنت إسرائيل خططها الواضحة والصارمة لفصل شمال القطاع عن جنوبه، وتوسيع المناطق العازلة حول القطاع على حساب مساحته نفسه وحصره في عدد كيلومترات لا يستقيم معه توفير إقليم قابل للحياة لأكثر من مليوني نسمة. هذه الخطط الجغرافية بعيدة الصلة بأهداف الرواية الإسرائيلية الأولية المحكومة باستعادة الأسرى والقضاء على (حماس) في غزة، إذ إن إحداث هذه التغييرات لا يعني بأي حال من الأحوال القضاء على حماس، وإنما بالتأكيد يعنى القضاء على غزة شعبا وأرضا في أحد تجليات أبرز معضلات التأسيس للدولة الإسرائيلية ذاتها والمستمرة حتى اليوم، وهي أنها دولة أنشئت بلا حدود سياسية تحكمها.
هذه التغييرات الديمغرافية والجغرافية غير منفصلة عن رؤية أشمل لإحداث تغييرات جيوسياسية حذرية تعيد ترتيب المشهد وتعريف محركات الصراع القائم منذ سبعة عقود، ونفي جذوره واتصال الشعب الفلسطيني بحقوقه غير القابلة للتصرف، وبالتالي تغيير محفزاته الداخلية والإقليمية بما يضمن مصالح إسرائيل، ويحقق لها رؤيتها في إنهاء الصراع وفقا لموازين القوة غير المتكافئة وخارج أطر الإجماع الدولي والأطر القائمة للتوصل إلى حل عادل وشامل على أساس حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967.
ركزت الرواية الإسرائيلية في بدايتها على تبرير جميع هجماتها وعمليات القصف لتحرير أسرى يوم 7 أكتوبر، ومن بينهم جنسيات أجنبية متعددة، في محاولة لحشد التعاطف مع موقفها والتأييد في مرحلة لاحقة لأفعالها غير المحكومة بقانون يبررها لدى الرأي العام الدولي. إن مثل هذا الأسلوب في عرض الرواية الإسرائيلية يجعل إسرائيل والرأي العام الغربي في صف واحد ويوحد عدوهم، وهو «حماس» في هذه الحالة، ما يعطي زخما لأي تحرك إسرائيلي في غزة وفقا لهذه الرواية، خاصة لدى قطاعات الناخبين الذين يؤيدون التيار اليميني في الغرب الذي تتصاعد شعبيته بشكل كبير.
بيد أن هذه الرواية واجهت تحدياً لدى الرأي العام الغربي الذي يواجه في مجتمعاته إشكالية عميقة مع تصاعد التيار اليميني، ويعده خطرا على استقرار نموذجه الديمقراطي وسلامة البناء المجتمعي، ما شكل معضلة ذاتية الصنع أمام الرواية الإسرائيلية من هذا المنطلق، ودفع في اتجاه البحث والتشكيك في مصداقية هذه المبررات المغلوطة التي تسوقها إسرائيل لخدمة تيار يميني متطرف بالأساس، ولكن بدعم من رأى عام يواجه انقساما حادا وشرخا عميقا بشأن هذا التيار في مجتمعاته بالأساس.