د.خالد بن محمد اليوسف
(أحمد) يستمد بريقه من الحمد والثناء؛ ويطلق هذا الاسم على الشخص الذي يتمتع بصفات حميدة، وأخلاق فاضلة تجعله مستحقاً للإعجاب والتقدير.
في مساء يوم جميل في مركز (جو) كان لوالدتي -حفظها الله- مع أخواتها موعد منذ زمن يجعل الاجتماع الدوري القائم بينهن في تلك الفترة من نصيبها، فكانت تؤكد علينا أنا وإخوتي الحضور والسلام وتجديد العهد بمن هن بمنزلة الأم، فحضرنا نحن الأولاد جميعا وتشرفنا بالسلام على الخالات الكريمات، وتبادل أطراف الحديث معهن مع تبادل المزاح والطرائف الخفيفة، فكانت جلستنا معهن جميلة وإن كان وقتها قليلا حيث اقتطعناه، نحن الأبناء، من الجلسة النسائية الأكبر والسهرة (الحُقيلية) الأجمل للوالدة مع أخواتها الكريمات، ويحفهن كريمات شقيقاتي من كل جانب خدمة وحشمة ومحبة وحديثا وأُنسًا، ثم انتقلنا نحن الأبناء إلى خيمة الرجال ولم يكن هناك إلا نحن مع من تشرف بإحضار والدته من أبناء الخالات الكريمات، جلسنا وسهرنا وطربنا وشعرنا فعلاً بأننا نحب بعضنا مع ندرة رؤيتنا لبعضنا؛ إلا أننا توالفنا، كما لم نتوالف من قبل، ولا غرو في ذلك فما يجمعنا كبير جدا ويكفي أن جدتنا واحدة هي أمي حصة الخريف -رحمها الله- رحمة واسعة، وهنا تظهر حكمة بناتها في تأسيس اجتماع دوري يخصهن، يلتقين فيه ويتلاقى فيه الأبناء مع الأبناء، والبنات مع البنات فيتجدد العهد وينقطع البعد وتتقارب الأجساد لتتقارب القلوب ويعم الوصل وتتأكد الصلة.
وهنا فهمنا مغزى الوالدة بالتأكيد علينا جميعا بالحضور وعدم قبول أي اعتذار؛ فكم نحن بحاجة لحكمة الكبار ورؤية الكبار وخبرة الكبار، فليس كل شيء يصرحون به لنا لزاما، ولكن ما يرونه هم ربما تقصر رؤيتنا عنه في حينه وفعلا هذا ما كان، فجزى الله حصة الخريف خير الجزاء حينما تعبت وسهرت وعانت وربت وجادت علينا بهذه الكواكب المضيئة والنجوم اللامعة ببنات أصيلات قويات خبيرات كل واحدة منهن جبلا من الخبرة والحكمة والحبكة والحنكة والدربة والرؤية، ولذا كانت بيوتهن انعكاسا لتربيتهن الناصعة الباسقة الرائعة فخرجت لنا أجيال من اليوسف والضعيان أكرم وأنعم بهم بنات وبنينَ، ولا زالت أنهار الأبناء والبنات تجري وتتفرع وتتدفق تسقيها بحار بنات الحقيل الكبار علما وعملا، وهذه البحار (الحُقيلية) سقت ولا تزال من محيط حصة الخريف - رحمها الله.
قارب اجتماعنا المسائي على نهايته وأزف وقت الرحيل والوداع، وبدأت وفود الخالات الكريمات تغادر وكان آخر المغادرين وفد خالتي هدى، وكعادة مثل هذه الاجتماعات لابد أن تخرج منها بانطباعات متعددة ومتغيرات متجددة؛ فالصغير يكبر ويتغير والكبير يتجدد ويتغير أيضا، وهكذا هي الحياة كل يوم يضاف في رصيد العمر هو يوم جديد يحمل رصيدا جديدا من المعلومة والخبرة والتجربة والدروس اليومية، وكعادة هذه الاجتماعات أيضا لابد أن يكون هناك فارس أصيل وحصان أبيض كما يقولون يخطف الأضواء ويكون هو محط النظر والأنظار!
وكان فارس اجتماعنا هذه الليلة فاجأنا جميعا بدماثة أخلاقه ورقي تعامله وسعة ثقافته وسماحة نفسه وبساطة حديثه مع رزانته ووسامته -ما شاء الله- وعنايته بأدق التفاصيل في مظهره وملبسه ولياقته ولباقته، كانت بالنسبة لي أول مرة أراه فيها منذ كان عمره لا يتجاوز عشر سنوات، والآن أراه شابا يافعا يدرس في الجامعة ويقترب من التخرج، ما أسرع الحياة وما أجملها حين تجمعنا بمثل هذه الوجوه الطيبة حين تجمعنا بمثل هذا الشاب الوسيم الذي ترى فيه رجل المستقبل القوي الذكي اللامع الحبيب الطيب المتواضع الواسع الثقافة النظيف القلب والقالب، هذه رؤيتي فيه واستشرافي عنه ولا عجب فهو من بحر هدى الحقيل التي ارتوت من محيط حصة -رحمها الله- فلن يكون ابنها إلا ثمرة يانعة حلوة النظر والمنظر وحلوة الطعم والمذاق.
انتهت سهرتنا في المزرعة وعاد كل واحد منا لحياته الخاصة وأشغاله اليومية المعتادة، ومضت الأيام تلفها الأشهر تغطيها عدد من السنوات، فمرت أربع سنوات منذ ذلك الاجتماع كأنها أحلام نوم عابرة، فلم يحصل تجديد للقاءات ولا للاجتماعات ولم ير أحدنا الآخر خلال هذه السنوات الأربع، وقبل أسبوعين فقط تردني رسالة دعوة لحضور زواج أحمد الضعيان، حين قرأت الرسالة أدركت مجددا أننا أمام زمن تداهمنا فيه الأحداث ونحسب أننا لازلنا في أول الطريق، فمن هي صاحبة الحظ السعيد التي فازت بأحمد ذلك الشاب الوضيء الوسيم الخلوق الجميل، أنعم وأكرم وأحسن بأحمد الذي خرج وبزغ ولمع وتلألأ من نور وهدي (هدى) الأم الفاضلة الطيبة اللامعة، فلم أتردد ولو للحظة واحدة بحضور هذا الزواج مع وجود موعد ضروري في نفس ليلة الزواج إلا أن أحمد عندي يعلو ولا يقارن بغيره، بل كنت سأحضر ولو لم أدع للزواج لأن أحمد يستحق وقد كنت شغوفا أن أرى أحمد في يوم حياته التاريخي ويوم انتقاله من شاب أعزب إلى رجل متزوج بعد أن فاتتني أيام انتقاله من ولد صغير إلى شاب يافع نابه لماح.
دخلت القاعة فوجدت أحمد في المنتصف أقبلت عليه فسلمت وهنأت وباركت وكان كما كان ابتسامة وأدبا وحياء وأخلاقا قدمني لخاله ياسر (والد زوجته) الذي فاز به بعد أن فازت به ابنته، فباركت له داعيا الله لهما بالتوفيق والحياة الطيبة، لم يتخلف أحد في هذه الليلة وكأن الأشغال توقفت، ورياح الظروف الطارئة، قد خضعت وسكنت وتذللت احتراما لشخصية أحمد الشاب الطيب المكافح الخلوق فقد حضر الجميع، حضر الصغار والكبار وحضر المتوافقون والمتخالفون والمختلفون، حضر الجميع في مكان واحد وعلى صعيد واحد.
الجميع ارتسمت بحضورهم لوحة إبداعية جميلة استطاعت أن ترسمها ريشة أحمد السهلة الخفيفة اللطيفة، رسمتها ريشة أحمد بإبداع منقطع النظير مع إتقان وامتاع ولو اختلفت قلوب بعض الحاضرين مع بعضهم البعض إلا أن الجميع حضر وشارك وفرح وبارك حضروا جميعَا وجلسوا جميعا وتلاقوا وتقابلوا جميعا؛ لأن الجميع يحب أحمد ويثني عليه ويرغب أن يكون له بصمة حضورية في هذا اليوم الأحمدي الكبير!
صورة مشرقة، وحكاية براقة، وأنموذج فريد لمجتمعنا السعودي المشرق والمشرّف.