عبدالوهاب الفايز
الأسبوع الماضي تحدثنا عن الانطباعات الأولية التي يجدها من يزور الصين مجدداً، ففي كل مرة تجد إصرار هذا البلد على الريادة العالمية بكل المجالات، بالذات (الأبحاث والتطوير). وزيارة لمدة أسبوعين قد لا تكون كافية. ولكن نوعية اللقاءات مع قيادات الكيانات الكبرى، وحلقات النقاش، والزيارات الميدانية لعدد من مراكز الأبحاث والمدن الصناعية الذكية.. قدمت إطلالة مناسبة تعزز القناعة بأمر مهم: حاجتنا للاستفادة مع هذا منجزات هذا البلد العظيم.
الزيارة كانت ضمن وفد من رجال الأعمال والمستثمرين، رتبها الأستاذ خالد بن عبدالعزيز المانع، أحد الخبراء في الشأن الصيني وقيادي سابق في سابك. وهذا سهّل الوصول إلى قيادات ومواقع ليس من اليسير سرعة الوصول إليها.
الذي يعجبك في نهضة الصين هو قصة الأمة التي وصلت إلى موقع القوة العظمى بعد أربعة عقود من الكفاح والتعب والتضحيات. بلد بقي لديه من الشيوعية مركزية القرار الوطني، وهيبة الدولة وإرادتها التي حققت القفزة الصناعية الكبرى. وهذه الرحلة المريرة الصعبة مازالت مستمرة، فالغرب بقيادة أمريكا يكافح لكي يوقف تقدم التنين.
هذا الموقف العدائي الغربي هو الذي يجعل الصين، وقياداتها السياسية والاقتصادية والتجارية، تتطلع إلى تعزيز علاقاتها مع الأصدقاء والحلفاء خارج التأثير والهيمنة الغربية. والصين أدركت، منذ انطلاق مشروع التحديث الاقتصادي والسياسي، أن النزعة الغربية للهيمنة لن تتركها تمضي بمشروع النهضة دون إيجاد العوائق والمنغصات.
وهذا التحدي طور لديها المرونة الاستراتيجية، وسياسة النفس الطويل المستمدة من ثقافتها العميقة، والتي تعكس الحكمة الصينية التقليدية في التعامل مع التحديات والفرص على المدى البعيد.
حكمتها التقليدية تقول: «لا يهم أن تسير ببطء، طالما أنك لا تتوقف». ومعلمهم الأكبر القائد العسكري (سن تزو) يقول لهم: «المنتصرون يبنون خططهم قبل المعركة، بينما المهزومون يبدأون بالقتال ثم يخططون».
في هذا المعترك العالمي، الذي يهمنا أن القيادات الصينية في كل القطاعات منفتحة ومرحبة ومشجعة لكل مشاريع التقارب والتوصل، والصين كانت سباقة للشراكة الاقتصادية مع السعودية منذ بداية العلاقة، بالذات الاستفادة من صناعة البتروكيماويات السعودية.
الأستاذ خالد بن عبدالعزيز المانع من الجيل الثاني لقيادات سابك، وهو شاهد مرحلة حيث عاصر نمو العلاقات بين البلدين. بعد تخرجه في الجامعة من اليابان في الهندسة كانت رغبته مواصلة تعليمه العالي في اليابان، ولكن نصحه أستاذه الياباني التكملة في الصين، فهذا البلد -كما قال له أستاذه- هو القوة القادمة وهو محور شرق آسيا. لم يتردد، سمع النصيحة وذهب إلى الصين، وبعد تخرجه عاد إلى السعودية، وتزامنت عودته مع بداية الإنتاج الوفير لصناعة البتروكيماويات السعودية، ومع انطلاقة الصناعة في الصين.
وعندما أرادت قيادات سابك التوجه إلى آسيا، بادروا بالعرض عليه للذهاب إلى الصين ليكون المدير الإقليميّ في آسيا. وفعلا تم تأسيس مكتب الشركة لشرق آسيا في سنغافورة، ثم فُتحت مكاتب في شنغهاي، وتبعها إنشاء مركز الأبحاث. هذا التواجد القريب من مواقع القرار والإنتاج ساعد سابك للانطلاق والحصول على حصة سوقية جديدة وكبيرة في الصين، وكانت بمثابة الداعم والمحفز القوي للصناعات البتروكيماوية السعودية التي واجهت مقاومة شرسة في الأسواق الأمريكية والأوروبية.
المهندس خالد يعمل الآن على جبهة جديدة هي تعزيز فرص الاستثمارات المالية والصناعية بين البلدين، والمساعدة على تذليل العوائق الإجرائية والفنية والثقافية بين القطاعين العام والخاص في البلدين، بعد اتضاح أثرها السلبي على تطور العلاقات. ومن الإجراءات العملية النوعية التي دعمها وساهم في بنائها مبادرة إنشاء مركز الأعمال الصيني السعودي في مدينة Changsha في جنوب الصين، قريباً من شنغهاي.
هذا المركز تم الإعلان عنه في حفل حظي بحضور ومشاركة نوعية من البلدين يوم 27 يونيو الماضي، وهو مبادرة من إحدى المجموعات التجارية الصينية، وصمم ليكون منصة التقاء وبناء مشاريع وعلاقات تجارية بين الشركات السعودية والصينية لتعزيز الاستثمار. هذا المركز يوفر مقرات دائمة للشركات، مع وجود حاضنات ومسرعات أعمال، وخدمات للشركات، وبُني على نموذج عمل مماثل طور العلاقات بين الشركات الألمانية والصينية.
أيضا هذا المركز سيكون منطلقا لمعالجة الجوانب (الثقافية والاجتماعية) التي تعيق التواصل والتفاعل النوعي الفعال بين البلدين عبر ترتيب ورش عمل وحقائب تدريبية لرجال الأعمال من البلدين تركز على التوعية الثقافية حتى لا تكون عاملا يعطل العلاقات بينهم.
إطلاق هذا المركز كمبادرة صينية، نتمنى أن يقابله مبادرة من جانبنا.
في مقال الأسبوع الماضي كان المقترح هو المبادرة لإيجاد آلية عملية مثل: إنشاء «المركز السعودي الصيني للتنمية الاستراتيجية والشراكة الاقتصادية» ككيان اعتباري مستقل، ليكون محورًا للأعمال المشتركة، يُدعى له الخبراء السعوديون الذين لديهم (تجربة عملية طويلة)، ولدينا كنز وطني من القيادات الذين عملوا في المجالات الصناعية والتجارية والدبلوماسية.
من نطاق عمل المركز السعودي المقترح، تذليل العقبات الإجرائية عبر إنشاء منصة موحدة لتراخيص المشاريع المشتركة، واختصار الإجراءات البيروقراطية، وحل النزاعات التجارية بسرعة. وبناء البرامج الثقافية والإدارية لتبادل الخبرات، وترتيب ورش عمل لفهم البيئة الثقافية والتنظيمية في كلا البلدين، وترجمة المعايير الفنية والإدارية، مع إجراء دراسات جدوى مشتركة للتعرف على الفرص الاستثمارية.
التطور الكبير الذي وجدناه في جميع الكيانات التي زرناها هو: الاهتمام بالأبحاث والتطوير، وهذا مجال الشراكة المهم الذي نتطلع إليه مع الصين. لقد حققت الشركات الصينة في العشرين عاماً الماضية إنجازات كبيرة لتطوير صناعة عديدة وأبرزها صناعة السيارات الكهربائية. مثلا شركة BYD لديها 60 ألف براءة اختراع، وحققت تطورا مذهلا في تطوير بطاريات كهربائية أكثر أماناً ولا تتأثر في حالة احتراقها مما يحميها من الانفجار، وهذا يعد نقلة نوعية في موصفات الأمان والسلامة للسيارات الكهربائية.
أيضا شركة هواوي (Huawei) تُعد الآن الأولى في براءات الاختراع عالمياً، خاصة في مجالات الاتصالات، الذكاء الاصطناعي، وتقنية 5G.
وفي السنوات العشرة الماضية أنفقت بحدود 20 % من الإيرادات على الأبحاث والتطوير، ويعمل 50 % من موظفيها في الأبحاث والتطوير. كذلك شركة ZTE أصبحت منافسة قوية في مجال براءات اختراع الاتصالات والشبكات. وطورت شاحن سيارات كهربائي قلل مدة الشحن الكامل إلى 5 دقائق. تطور مذهل!
وأيضاً شركة Tencent لديها عدد كبير من براءات الاختراع في مجالات التكنولوجيا المالية، الذكاء الاصطناعي، والألعاب الرقمية. وشركة OPPO لديها حضور قوي في براءات اختراع الهواتف الذكية وتقنيات الشحن السريع. ومثلها شركة Xiaomi نشطة في تسجيل براءات الاختراع في الأجهزة الذكية وإنترنت الأشياء (IoT). وثورة الابتكار والاختراع لا تقف عند الشركات الكبرى، بل تشمل الشركات الناشئة، فهذه أصبح لها إنجازات متميزة في الابتكار.
هذه الطفرة في الأبحاث والتطوير هي التي أعطت الصين ميزة تنافسية رغم القيود الغربية المفروضة على تصدير التقنية المتقدمة لشركاتها. هذه فرصة لبلادنا للاستفادة من هذه الطفرة. مما سمعناه، هناك رغبة صادقة للتعاون مع السعودية، فبلادنا لها تقدير خاص في الصين وتلمسه من نوعية معاملة واهتمام القيادات التي جاءت من أماكن بعيدة للالتقاء مع الضيوف من السعودية.
وعبر آليات عملية يمكن تحقيق الاستفادة واستثمار الشراكة، عبر التالي:
1 - تعزيز وتوسيع الشراكة البحثية مع الصين في المجالات الاستراتيجية مثل الذكاء الاصطناعي (AI)، والطاقة المتجددة، والصناعات المتقدمة، حيث تمتلك الصين خبرات كبيرة في هذه المجالات، وإنشاء مراكز بحثية مشتركة، على غرار «مشروع جينوم النخيل» بين السعودية والصين، والذي يهدف إلى تحسين الإنتاج الزراعي باستخدام التكنولوجيا الحيوية.
2 - نقل التكنولوجيا وتوطين الابتكار وجذب الشركات الصينية لإنشاء فروع في السعودية. لدينا الآن في المنطقة الصناعية في جازان تعاون مع شركات صينية في مجالات الصناعات البتروكيماوية والطاقة الخضراء. كذلك الاستفادة من الخبرة الصينية في (المدن الذكية والبنية التحتية الرقمية).
3 - تطوير نظام تعليمي وبحثي قوي على النموذج الصيني، وتعزيز التعاون بين الجامعات السعودية والصينية، مثل برامج التبادل الطلابي والبحثي، لا سيما في تخصصات الهندسة وعلوم البيانات، وإنشاء مراكز ابتكار مماثلة لمركز هانغتشو العالمي للابتكار في الصين، والذي يجمع بين الأبحاث الأكاديمية والتطبيقات الصناعية.
4. - تبني سياسات داعمة للبحث والتطوير، وزيادة التمويل الحكومي للبحث العلمي، كما فعلت الصين عبر برنامج مثل «صنع في الصين 2025» الذي حقق 90 % من مستهدفاته العام الماضي. مع تقديم حوافز ضريبية للشركات التي تستثمر في الابتكار، مثل الإعفاءات الضريبية للشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا.
5 - الاستفادة من التجربة الصينية في التحول نحو الاقتصاد الدائري، وتطبيق تقنيات إعادة التدوير المتقدمة، مثل: (تحويل النفايات إلى طاقة)، وهو مجال تتفوق فيه الصين. مع تعزيز التعاون في مجال الاقتصاد الأخضر، مثل مشاريع الطاقة الشمسية، فالصين هي أكبر منتج للألواح الشمسية في العالم (80 % من الإنتاج العالمي).
6 - الاستثمار في البنية التحتية التكنولوجية، وتطوير مراكز بيانات وبنية تحتية رقمية بالتعاون مع شركات صينية مثل هواوي وتينسنت، وتبني حلول الذكاء الاصطناعي في القطاعات الصناعية، كما تفعل الصين في مصانعها الذكية.
الذي نتطلع إليه من هذه الشراكة هو أن تصبح السعودية مركزًا إقليميًا للابتكار والتطوير، وهذه الآليات سوف تساعد المملكة على تحقيق أهداف رؤية 2030 لبناء اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار.
لدينا (فرصة تاريخية) سانحة الآن للتعاون بصورة أكثر وأشمل مع الصين، وعسى أن نعززها.