منال الحصيني
ليست اللغة مجرد وسيلة نتواصل بها، بل هي الفضاء الذي نسكنه من الداخل. هي الطريقة التي نفكر بها دون وعي، والأسلوب الذي نشعر به ونروي به ذواتنا.
حين نقول «أحبك»، لا نعني الكلمة وحدها، بل نفتح باب القلب للآخر، ونمنحه حق الدخول إلى أعماقنا.
وعندما نعجز عن التعبير، لا يكون العجز في الشعور، بل في ضيق اللغة عن احتواء ما فينا.
لا نستطيع فهم أنفسنا حقًا إلا حين نتمكّن من ترجمة ما نشعر به إلى كلمات، ومن لا يجد اللغة، يبقى سجين شعور غامض لا اسم له.
ولهذا، تبقى اللغة هي أول طريق للفهم، وأول جسر نُقيمه بيننا وبين أعماقنا.
اللغة لا تحمل الثقافة كحمل على ظهرها، بل تسكنها كروح لا تنفصل عنها.
فكل لغة تخفي في داخلها زاوية فريدة لرؤية الحياة، وطريقة خاصة للشعور بالحزن، وأسلوبًا مختلفًا للتعبير عن الفرح، وحنينًا قد لا تترجمه الكلمات.
وفي لغتنا العربية، نجد كلمات مثل: «السكينة»، «الشجن»، «السلوى»، و «الأنس».. ليست مجرد ألفاظ، بل تجارب شعورية دقيقة، سمّاها من عاشها لأنهم وجدوها في ذواتهم، ولأن لغتنا كانت رحيمة كفاية لتمنحها أسماء.
وحين نتعلّم لغة جديدة، لا نكتسب أصواتًا مختلفة فحسب، بل نعيد تشكيل وعينا.
نُدرك أن الآخرين لا يرون العالم كما نراه، وأن الجملة البسيطة لدينا قد تحمل وزنًا كبيرًا لديهم.
نتعلم أن ننتبه للتفاصيل، وأن نصغي لما خلف الكلمات، وأن نفهم الإنسان لا من خلال معجمه، بل من خلال إنسانيته.
الثقافة لا تختزل في ما نأكله أو نرتديه أو نحتفل به، بل تكمن في ما نقوله حين نحزن، وفي طريقة مواساتنا لمن نحب، وفي صمتنا، وفي لحظة صدق نختار فيها قول الحقيقة.
ومن دون اللغة، تبقى هذه المشاعر معلّقة، تبحث عن طريق للآخر فلا تجده.
لهذا، فاللغة لا تفرّقنا، بل تجمعنا. لا تعزلنا، بل تُظهر كم نحن متشابهون في العمق، رغم اختلاف الألسن.
وكلما تعلّمنا لغة اقتربنا من إنسان جديد.
وكلما فهمنا لغتنا أكثر اقتربنا من ذواتنا.
في عالمٍ يغمره الضجيج، تبقى اللغة أكثر ما يربط الإنسان بالإنسان.
نحن لا نلتقي أولًا بالوجه أو اليد.. بل نلتقي بالكلمة.
بها نُحب، نتصالح، ونتعافى.
وبها نقول: «هذا أنا».
فإن أردت أن تفهم أحدهم.. فاستمع إلى لغته.
وإن أردت أن تفهم نفسك.. فأنصت إلى الكلمات التي تسكنك..