جانبي فروقة
ينمو حجم اقتصاد الظل Shadow Economy في العالم بشكل مريب، ويعرّف اقتصاد الظل بمجموع الأنشطة الاقتصادية التي لا يتم الإبلاغ عنها للسلطات الحكومية والضرائب سواء كانت قانونية لكن تتم خارج النظام الرسمي مثل الأعمال الحرة غير المسجلة أو الدفع النقدي غير المصرح به أو كانت غير قانونية (مثل الاتجار بالمخدرات والسلاح والبشر).. اقتصاد الظل ينشأ نتيجة السعي للتهرب من الضرائب المرتفعة والفساد والبيروقراطية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة.
وبحسب تقرير Ernst الجزيرة Young إيرنست آند يونغ لعام 2025 م فإن اقتصاد الظل يشكل اليوم حوالي 12 % من الناتج المحلي العالمي وهذا يعادل التريليونات من الدولارات، وأشارت بيانات «Visual Capitalist» إلى أن حجم اقتصاد الظل في الدول الغنية عامة لا يتجاوز 6 %، بينما في المتوسط يصل إلى 42 % في الدول النامية، وعلى سبيل المثال فإن دول مثل سيراليون يصل فيها حجم اقتصاد الظل كنسبة من الناتج القومي إلى 65 % والنيجر إلى 56 % ونيبال إلى 51 % ويصل حجم اقتصاد الظل في الهند 26 % من الناتج القومي أي ما يعادل 931 مليار دولار وفي اليابان 6و7 % وهذا يعادل 282 مليار دولار، وفي المقابل لا يتجاوز حجم اقتصاد الظل في الولايات المتحدة الأمريكية 5 % ولكنه يقدر بـ 1و4 تريليون دولار، وفي الصين يصل إلى 20 % ويقدر بـ 3,6 تريليون دولار ويبلغ في ألمانيا 7 % ما يعادل 365 مليار دولار، وفي روسيا يصل اقتصاد الظل إلى 13 % ويبلغ 265 مليار دولار، وفي البرازيل 20و6 % ما يعادل 446 مليار دولار، وفي المكسيك 17و9 % ما يعادل 320 مليار دولار، رغم أن اقتصاد الظل (أو ما يسمى أحياناً بالاقتصاد الموازي) ينظر إليه بسلبية نظراً لارتباطه بالتهرب الضريبي وغياب الرقابة، إلا أنه في ظروف معينة وخاصة في الدول النامية أو الخارجة من النزاعات يمكن أن يساهم بشكل إيجابي في دفع عجلة النمو الاقتصادي، و(طبعاً نعني هنا الأنشطة التجارية والصناعية غير الداخلة في النظام الضريبي والبعيدة عن الإجرام والنشاطات الخارجة عن القانون)ن فهو بشكل ما يوفر فرص العمل خاصة في الدول الأفريقية والآسيوية التي يصل فيها نسبة البطالة إلى أكثر من 50 %، ويسد الفجوات في الخدمات العامة في المناطق التي تغيب فيها الدولة أو تنهار مؤسساتها.. ففي سنوات الحرب في العراق وسوريا مثلاً ساهمت الشبكات غير الرسمية إلى حد كبير في استمرارية الحياة الاقتصادية وتأمين المواد الأساسية والبنية التحتية البديلة، فاقتصاد الظل ساعد المجتمعات في زمن الحروب على التكيف والبقاء خلال فترات الانكماش الحاد ولاحظنا ذلك زمن جائحة كورونا، حيث لجأ الملايين إلى أعمال غير رسمية بعد فقدان وظائفهم الرسمية. ورغم هذه الفوائد فإن الاعتماد الطويل الأمد على اقتصاد الظل يشكل تهديداً على قدرة الدولة على تحصيل الضرائب ونمو الإنتاجية والعدالة الاقتصادية؛ لذلك لتحقيق تنمية مستدامة لا بد من دمج اقتصاد الظل تدريجياًي الاقتصاد الرسمي عبر إصلاحات ذكية وتحفيزية.
التحديات الجيوسياسية والعقوبات الاقتصادية أيضاً تلعب دوراً مهماً في خلق صور جديدة لاقتصاد الظل ومنها أسطول الظل أو الشبح لنقل النفط الروسي تحت الحصار، وهذا الأسطول الشبح يعد صورة حية عن اقتصاد الظل في قطاع الطاقة فهو شبكة من السفن التي تنقل النفط الروسي بعيداً عن أعين العقوبات الغربية ويقدر عددها بـ 1000 سفينة وهي تتعامل بشكل مباشر مع دول مثل الصين والهند وماليزيا وتستخدم طرق دفع بديلة أيضاً خارج النظام المصرفي العالمي Swift سويفت، وهكذا يستطيع الروس الالتفاف على الرقابة العالمية عبر تكنولوجيا التضليل الملاحي.
ومن الصور الأخرى الحية في قطاع الغذاء أسطول الظل لسفن الصيد في البحار الذي يهدف إلى الصيد الجائر وغير المشروع للمخزون البحري من الأسماك والذي يهدد الأمن الغذائي البحرين والصين لوحدها تمتلك ما يقرب من 17 ألف سفينة تعمل خارج مياهها الإقليمية وتتهم بممارسة الصيد الجائر وغير المراقب، حيث يدار هذا الأسطول من قبل شركات شبه حكومية لا تسجل الكميات المصطادة في بيانات رسمية ما يحرم الدول من موارد هائلة ويهدد النظم البيئية البحرية، ويُقدّر البنك الدولي أن الصيد غير المشروع يحرم الدول الفقيرة من إيرادات سنوية تصل إلى 23 مليار دولار.
العمالة غير المسجلة تشكل صورة حية أخرى من اقتصاد الظل، فحسب تقرير لأوكسفام فإن 61 % من القوة العاملة عالمياً تعمل في اقتصاد الظل ولا تدخل في الاقتصاد الرسمي.
في عالمنا الرقمي اليوم بدأ يظهر مصطلح «الظل الرقمي»، حيث لم يعد اقتصاد الظل حكراً على الأسواق التقليدية أو الورش الصغيرة غير المرخصة بل اتخذ شكلاً أكثر تعقيداً وذكاء عبر الويب المظلم « Dark Web «، والويب المظلم هو جزء من الإنترنت لا يمكن الوصول إليه عبر المتصفحات العادية، ويستخدم تقنيات تشفير لإخفاء هوية المستخدمين. يُعد سوقًا سوداء رقمية عملاقة تتداول فيها: البيانات المسروقة (بطاقات بنكية وحسابات شخصية) وأدوية ومخدرات وأسلحة وخدمات قرصنة إلكترونية وهويات مزيفة ووثائق مزورة وطبعاً تستخدم العملات المشفرة مثل البتكوين وغيرها لإتمام الصفقات في البيئات السرية والظل الرقمي يشكل تحدياً للأنظمة المالية وتهديداً أمنياً عالمياً، فهو لم يعد ظاهرة تقنية بل امتداد خطير لاقتصاد الظل التقليدي ويتطلب التعامل معه تكنولوجيا مضادة وتشريعات ذكية وتعاون دولي واسع النطاق.
اقتصاد الظل قوة تتشكل وتنمو في العتمة وهو ليس اقتصاداً خارج القانون بل انعكاس مباشر لنقاط ضعف النظام العالمي، وفي عالم اليوم ولفهم وبناء اقتصاد رسمي قوي لا بد من معالجة اقتصاد الظل، فسواء كانت ناقلة نفط تبحر تحت علم مزور أو بائع خضار يعمل دون سجل تجاري أو تاجر مخدرات يبيع السم في الأسواق أو منصات رقمية تتبادل السلع غير المشروعة بعملات يصعب تتبعها، هناك عالم كامل يتحرك في الظل ويكبر والمشكلة أنه في العتمة تستوي كل الألوان.